افتتاحية

تعديل مدونة الأسرة.. نحو إعادة تأطير النقاش

تعديل مدونة الأسرة.. نحو إعادة تأطير النقاش

في البلاغ الوجيز للديوان الملكي ليوم أمس الثلاثاء 26 شتنبر 2023، ثمة كثافة في تقديم عناصر التكليف الملكي المتعلق بإعادة النظر في مدونة الأسرة.

وحَرِص البلاغ على إيلاء صفة إمارة المؤمنين ما يكفي من العناية، في إشارة إلى الموضوع وإلى صلته الوطيدة بالحقل الديني. لكن الوقوف على مجرد هذه الملاحظة قد يكون مضللاً.

في الفقرات القصيرة للبلاغ، نستطيع قياس المسافة الرمزية التي تفصل بين مقاربة “اللجنة الملكية الاستشارية لتعديل مدونة الأسرة” في بداية الألفية، وبين مقاربة اللجنة الحكومية في زمن ما بعد دستور 2011.

بالرغم من هامش المساحة التي تحوزها الملكية المغربية، تحت العنوان الوارف لإمارة المؤمنين، تبدو مقاربة 2023 مقتصدة في استثمار هوامش تدبير الحقل الديني، حيث التكليف الملكي لم يبحث عن شخصية بخلفية دينية مفضلا العودة إلى المربع الدستوري الوضعي (رئاسة الحكومة)، وحيث لجنة الإشراف تضم الأضلع الثلاثة لمنظومة العدالة (وزارة العدل، المجلس الأعلى للسلطة القضائية، النيابة العامة) وليس مجمعا للفقهاء، وهو ما يعني نوعا من إعادة تعريف القضايا المستجدة في إصلاح المدونة كقضايا قانونية/قضائية بالأساس أكثر ما هي قضايا تخص الشرع.

في نفس الأفق، لا يبدو الحديث عن المجلس العلمي الأعلى إلا في مستوى ثالث؛ بعد مستويي التكليف السياسي والإشراف العملي، يهم البعد التشاركي ويضم، إلى جانب المجلس المذكور، المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان والسلطة الحكومية ذات الصلة بقطاع الأسرة، على أن هندسة التكليف تتضمن مستوى رابعا يهم الانفتاح (أيضا) على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين.

في المقابل، ومع انحسار “الديني” في هندسة الإصلاح الأسري، بقي التوزيع الأفقي للأدوار نفسه بين الحقل الديني الذي يسمح بالتأطير ومن تم حسم الجدل في تداعياته الشرعية والفقهية باسم المشروعية الدينية (الفقرة الأخيرة من البلاغ، حيث الكلمة الأخيرة لأمير المؤمنين بعد “المشاورات التشاركية الواسعة”)، وبين الحقل الحديث الذي يتعامل مع الإصلاح كأي سياسة عمومية تسلك -في النهاية- نفس المساطر البرلمانية لتصاغ في النهاية في مخرجات تشريعية واضحة.

اليوم عندما يقرر الملك تكليف رئيس الحكومة بملف تعديل مدونة الأسرة، يمكن القول باطمئنان أنه لم تتغير منذ بداية الألفية، فقط ملامح الهندسة الدستورية تجاه خطاطة أكثر وضوحا على مستوى تدبير العلاقة بين الاختصاصات الدينية لأمير المؤمنين والاختصاصات المدنية لرئيس الدولة، لكن بالأساس جرت تحت جسور المجتمع مياه كثيرة، لم تصبح معها قضية المرأة عنوانا لشرخ قيمي وإيديولوجي، وتجاوزنا معها “حالة الشارعين المتقاطبين”.

في بيان ذلك، لعله من المفيد التذكير، أن خطاب العرش لسنة 2022، الذي يوجد في خلفية تكليف يوم أمس، كان، بلغة السياسات العمومية، تعبيرا عن قرار سيادي بإعادة ترتيب أولويات أجندة الإصلاح المجتمعي، بعيدا عن أي تفاعل لحظي بين أجندة الفاعل الرئيسي في سياسات الأسرة وبين مطالب الشارع وترافعات النخب وتوصيات المنظمات النسائية.

هنا يصح القول كذلك بأن تدبير الملف في الشكل والمسطرة والمضامين هو فرع من التحكم في زمن المبادرة وتوقيتها.

لنبقى في العمق أوفياء لمقاربة ملكية حكيمة في تناول الشائك من أسئلة التوتر المجتمعي والجدل القيمي، مقاربة تستند إلى ثقل “سقف” الشرعية الدينية والدستورية للمؤسسة الملكية كصمام أمان تجاه الانزياحات الممكنة للمطالب المهووسة بالإيديولوجيا، وفي ذات الآن إلى مركزية الروح الإصلاحية والتقدمية للملكية في تدبير قضايا التغيير المجتمعي المنخرطة في سجل الزمن العميق.

الوفاء لهذه المقاربة، لا ينفي أن صيغة 2023 تتضمن إعادة تأطير واضح لخريطة تموقع ملف إصلاح المدونة ولمضونها.

لكننا نصل إلى الخلاصة الجوهرية -نفسها- في نهاية التحليل؛ حيث تصبح إمارة المؤمنين في تأويل الممارسة الملكية، مصدرا للتحديث الاجتماعي والسياسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News