افتتاحية

المدونة ومحاولة النفخ في “تقاطب” وهمي

المدونة ومحاولة النفخ في “تقاطب” وهمي

يحتاج الفاعل المدني والسياسي في المغرب إلى الكثير من الحكمة في معالجة قضايا حساسة مثل ما هو الحال عليه في نقاش مدونة الأسرة.
فإذا كان الملك عندما وجه رسالة إلى رئيس الحكومة، حول إصلاح مدونة الأسرة، قد أمر برفع التعديلات إليه بصفته “أميرا للمؤمنين والضامن لحقوق وحريات المواطنين”، فإن البعض اليوم أصبح يرى نفسه صاحب القرار في طبيعة المدونة التي على المغاربة الاحتكام إليها.
وبين المغالاة في تفسير النصوص الدينية ودعوات التحديث بدون اعتبار لخصوصية المجتمع المغربي، خرج علينا ذلك الـ”بعض” سواء من التيار الأول أو الثاني بخطابات هدفها ليس إصلاح المدونة ولكن خلق نوع من التقاطب الوهمي في المغرب وإن كان تقاطبا دون مرجعية فكرية.
لذلك ونحن في مرحلة ما قبل إعلان مضامين الإصلاح المرتقب، لابد من التأكيد على أن ملك البلاد من خلال رسالته إلى رئيس الحكومة، حدد معالم الإصلاح الذي يجب أن تكون عليه النص القانوني المنظم للأسرة، ولم يطلب مدونة جديدة.
وجاءت رسالة الملك واضحة دون تشويش وهو أن “المرجعيات والمرتكزات تظل دون تغيير”، وأضاف الملك و”يتعلق الأمر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف، وكذا القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب”.
لذلك فإن المطلوب اليوم ليس مدونة جديدة لكون ما تم إنجازه في المدونة السارية المفعول يعد ثورة بما تحمل الكلمة من معنى، ولكن يجب إصلاح ما اعترى المدونة من اختلالات وما سجل فيها من نقائص بسبب الممارسة خصوصا أننا أمام عقدين التطبيق.
لكل ذلك فإن القراءة المتأنية للرسالة الملكية تثبت بما لا يدع للشك أن ملك البلاد حريص على تثمين ما تحقق من منجزات، وغايته معالجة الاختلالات، لذلك أكد أن “مدونة الأسرة أضحت اليوم في حاجة إلى إعادة النظر بهدف تجاوز بعض العيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة، وتأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطني”.
وعندما قرر الملك تكليف رئيس الحكومة بملف تعديل مدونة الأسرة، فقد أخرج النقاش من ضيق التقاطب الوهمي إلى فساحة الديمقراطية التشاركية، مستندا على أسس دستورية تنظم تدبير العلاقة بين الاختصاصات الدينية لأمير المؤمنين والاختصاصات المدنية لرئيس الدولة.
لكن الأساسي من كل هذا أن ما يحاول البعض اليوم جر المجتمع إليه، أصبح غير ذي جدوى لأنه جرت تحت جسور المجتمع مياه كثيرة، لم تصبح معها قضية المرأة عنوانا لشرخ قيمي وإيديولوجي، وتجاوزنا معها حالة التقاطب.
الخلاصة من كل هذا أننا أمام مؤسسة ملكية رفعت شعار الحكمة في تدبير قضية شائكة، وكان المفترض أن يتم إسناد طرحها بنقاشات فكرية بعيدة عن منطق التقاطب وقريبة من التوافق لأن ملف مثل مدونة الأسرة لا يمكن أن يعالج فقط بالنصوص القانونية، لأننا أمام ظاهرة سوسيولوجية أكثر تعقيدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News