رأي

“فتنة فتح الأندلس”.. كيف وقعت القناة الأولى في الفخ؟

“فتنة فتح الأندلس”.. كيف وقعت القناة الأولى في الفخ؟

مسلسل “فتح الأندلس” الذي أثار جدلا قويا غير مسبوق، ليس العمل الدرامي الأول الذي تناول سيرة وتاريخ البطل طارق ابن زياد، فقد سبقه إلى الميدان قبل قرابة 18 سنة مسلسل “الطارق” الذي يبدو أن جهودا إعلامية ذكية تعمل على إقباره.

والفرق بين العملين الدراميين كالفرق بين العمل الرصين المتوازن المنحاز إلى الروايات التاريخية المجمع عليها أو التي تمثل التوجه العام لدى المؤرخين، والعمل المحكوم بفوبيا “الحقيقة” التاريخية، والمنحاز إلى الروايات التاريخية المرجوحة. ومن شك في هذا الاستنتاج فما عليه سوى مشاهدة الحلقات 32 لمسلسل “الطارق” المتوفر على اليوتوب.

مسلسل الطارق، يتكون من 32 حلقة، عرض لأول مرة في رمضان 2004، ألفه يسري الجندي، وأخرجه أحمد صقر، وأنتجه قطاع الإنتاج – اتحاد الإذاعة والتلفزيون بجمهورية مصر العربية، وتم تصوير أحداثه ما بين مصر وسوريا والمغرب في مواقعها الحقيقية. وشارك في التمثيل من المغرب محمد حسن الجندي في دور كسيلة البربري. وقطاع الإنتاج بمصر كان هو المهيمن على الإنتاج السينيمائي في مصر والعالم العربي، أنتج 15 ألف ساعة درامية و400 فيلم روائى و600 فيلم تسجيلى.

ومسلسل فتح الأندلس المكون من 30 حلقة، يعرض حاليا لأول مرة، ألفه 6 كتاب، وأنتجته شركة المها للإنتاج الفني بالكويت، وتم تصوير أحداثه بين بيروت وماردين في تركيا، وشارك فيه الممثل المغربي هشام بهلول، الذي يجسد دور شداد صديق طارق بن زياد.

سوف نقف عند مسلسل الطارق لأن الزوبعة تهدف من بين ما تهدف إليه هو إسدال الستار عليه نهائيا. لماذا؟ لأنه هو الذي يعبر في الواقع عن انتظارات الجمهور المغربي، ويمثل الصرخة الدرامية إلى جانب صرخات المغاربة وانتقاداتهم لمسلسل فتح الأندلس.

وسيناريو الطارق عالج عدة إشكالات تاريخية بمقاربات إنسانية واقعية ومنطقية، وانحاز إلى ما أجمع عليه المؤرخون أو شكل التوجه الغالب لديهم، وأجاب عن أكثر الأسئلة حساسية في حياة طارق ابن زياد، دون أن يثير توترات كبيرة ولا أثار ردود فعل مشابهة للتي أوصلت “فتح الأندلس” إلى قبة البرلمان المغربي، بل وإلى المحكمة.

“الطارق” أجاب عن سؤال أصل فاتح الأندلس بمعالجة إنسانية راقية، معتمدة ما ذهب إليه أغلب المؤرخين، وتناول حياة البطل الأمازيغي من مختلف جوانبها، طفولته، وشبابه، وكيف أسلم، وزواجه، وكيف أصبح بتدرج منطقي قائدا للقبائل الأمازيغية، وكيف قاد الجيوش نحو الأندلس، وكيف أنهت المؤامرة مساره السياسي ليجرد من كل المناصب والألقاب، وكيف عاد إلى المغرب ليعيش فقيرا عابدا مع زوجته وأبنائه.

كما أجاب عن سؤال محوري هو: لماذا لم يستتب أمر الإسلام في المغرب إلا بعد بروز طارق بن زياد على ساحة الأحداث؟ وهي مسألة لم تلق العناية اللائقة بها، ونجح مسلسل الطارق في معالجتها معالجة منطقية، حيث لعب الأصل الأمازيغي لطارق ابن زياد دوره المحوري في توحيد القبائل الأمازيغية حول قيم العدل والحرية والتعاون على الخير، وتركيزه على الدعوة بدل السيف.

كما أجاب “الطارق” عن سؤال أساسي من الناحية التاريخية، وهو لماذا اهتم طارق بفتح ما وراء البحر وليس التوجه جنوبا حيث اليابسة؟  أي من أين جاء اهتمام طارق بفتح الأندلس وهي أراض لا يعرف عنها شيئا ولا يملك لها أساطيل، ولا كانت له تجربة في ركوب البحر؟ ومسلسل الطارق قارب هذه المسألة مقاربة إنسانية تتعلق بطفولته، حيث تعرضت قبيلته لخطف الأطفال وكان بينهم صديقة طفولته التي حاول إنقاذها وهو طفل ومنعته مياه البحر من ملاحقة مركب الغزاة، لترتبط ذاكرته بما وراء البحر، ويعقد العزم على استرجاع صديقته التي ستظهر في ساحة الأحداث بعد ذلك. وتكون هذه الذكرى المؤلمة أكبر شيء نقش بلاد ما وراء البحر في ذاكرته.

ورغم الانتقادات التي تعرض لها في بعض القضايا الخلافية، فمسلسل الطارق أجاب عن هذه الأسئلة وغيرها بمقاربة إنسانية منطقية لعب فيها الأصل الأمازيغي لطارق دوره المحوري، لذلك لم يثر عرضه مثل الجدل وردود الفعل القوية التي أثارها مسلسل فتح الأندلس الذي انحاز إلى الروايات المرجوحة، ولن يستطيع تقديم إجابات منطقية عن العديد من الأسئلة بشكل منطقي مقبول. والذي سجلت على حلقاته الأولى اختلالات همت المعطيات التاريخية التي تربط فتح الأندلس بالمغرب وبالمسلمين الأمازيغ.

إن الأمر هنا لا يتعلق بالانتصار لعرق أو أرض، ولا الحسم بين الروايات التاريخية، بل بمناقشة الأعمال الدرامية ومدى قدرتها على إعادة إنتاج ما مضى من التاريخ بمقاربات إيجابية تجمع بين الدقة في نقل الوقائع التاريخية، والعمل الدرامي الإنساني المبدع الذي يلاقي حلقات مسلسل الأحداث بسلاسة، ويملأ الفراغات، ويوحد ولا يثير الفتن.

وفي هذا السياق، يطرح السؤال على القناة الأولى والقائمين عليها، والذين يفترض فيهم الاطلاع على سيناريو مسلسل فتح الأندلس، ومقارنته بسيناريو مسلسل الطارق واستشارة الخبراء في الأمر، والمغرب والحمدلله يتوفر على العشرات من الخبراء في التاريخ في مختلف مراحله. لأننا أمام إعلام عمومي المفروض أنه يخدم الوطن، ويخدم الهوية التاريخية للمغرب، ويعمل على تعزيز وحدته الوطنية، وعلى حماية تراثه التاريخي من السرقة والتزوير والتحريف.

إن رفض الاستمرار في عرض مسلسل فتح الأندلس موقف منطقي، ينتصر للتاريخ المغربي وهويته، وللقضية المغربية. ولو أعادت القناة الأولى تقديم مسلسل الطارق لقدمت للجمهور المغربي عملا دراميا ممتعا ومميزا على مختلف المستويات، وأقل ما سيستفيده المشاهد المغربي تعزيز عمقه التاريخي وتقوية إيمانه بهويته المغربية الأصيلة التي تميزت عبر التاريخ بالاستقلالية السياسية عن المشرق. فكيف انزلقت القناة إلى فخ الأعمال التجارية غير المسؤولة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News