الأغلبية الحكومية والأغلبية البرلمانية أي علاقة؟

بداية وجب التأكيد أن الحكومة كمؤسسة دستورية منتخبة، هي نتاج ومحصلة سياسية لتحالف أحزاب الأغلبية البرلمانية، أي الأحزاب التي حصلت بمناسبة الاستحقاقات التشريعية على عدد من المقاعد النيابية يجعلها، من الناحية العددية، مؤهلة للدخول في تحالفات سياسية، بعد تلقيها لدعوة من الحزب الذي تَصَدَّر انتخابات مجلس النواب، وهذه الدعوة لنسج تحالفات قصد الدخول للحكومة تكون بعد حصول رئيس الحزب الأغلبي على تعيين من الملك بمثابة تكليف لبدء مفاوضات تشكيل الحكومة، طبقا للفصل 47 من الدستور، الذي ينص على أن الملك يُعَيِّن رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تَصَدَّر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، ويعين أيضا أعضاءها باقتراح من رئيس الحكومة.
ودخول رئيس الحزب الأغلبي في مفاوضات مع باقي الأحزاب السياسية، قصد تشكيل الأغلبية الحكومية فرضته عدة اعتبارات موضوعية مرتبطة أساسا بطبيعة ممارسة السلطة في النظام الدستوري المغربي، لعل أبرزها التعددية الحزبية التي اختارها المغرب منذ أول دستور لمغرب ما بعد الاستقلال ومَأْسَسَهَا الفصل الثالث من دستور 1962، الذي نص على أن نظام الحزب الوحيد ممنوع. وتعتبر التعددية الحزبية استراتيجية ابتكرتها المؤسسة الملكية للحيلولة دون هيمنة حزب الاستقلال – آنذاك- على الحياة السياسية.
وبقدر ما تعتبر التعددية الحزبية بالمغرب أمرا صِحِّياً ودليلا على انفتاح النظام السياسي الذي يؤمن مبدئيا بالتعددية السياسية في البرامج الحزبية والانتخابية، فإنها بالقدر نفسه تعتبر عائقا يمنع من بروز حزب أغلبي أو تشكيل أغلبية حكومية متناسقة، ذلك لأن الوضع الذي أضحى عليه المشهد الحزبي المغربي في الآونة الأخيرة من حيث كثرة الأحزاب وتناسلها جراء ظاهرة الانشقاقات الحزبية، يجعل من الصعوبة بمكان – بل من المستحيل- حصول أي حزب سياسي على أغلبية مطلقة للمقاعد البرلمانية بمجلس النواب، اللهم إحراز أغلبية عددية لا تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، إلا بعد بناء تحالفات سياسية مع أحزاب أخرى، وهو ما يُرغِم الحزب الذي حَلَّ في المرتبة الأولى من نسج تحالفات قد تكون -أحياناً- هجينة وغير منسجمة من حيث مرجعياتها الإيديولوجية. وهكذا يجد الحزب الذي حصل على أغلبية المقاعد النيابية نفسه ملزما لا مخيرا من أجل البحث عن أحزاب حليفة قصد تشكيل الحكومة حتى ولو كانت لا تجمعهم قواسم سياسية وفكرية مشتركة وحتى في ظل تواجد ما يفرق بينهما أكثر مما يوحد بينهما.
وهنا قد يطرح تساؤل مشروع، لماذا ضرورة الدخول في تحالفات حزبية؟ الجواب ببساطة هو أن الحكومة من الناحية الدستورية لا تكتسب وجودها القانوني والسياسي إلا بعد حصولها على ثقة الأعضاء الذين يتكون منهم مجلس النواب عملا بالتنصيب البرلماني المنصوص عليه في الفصل 88 من الدستور، بعد أن يتقدم رئيس الحكومة أمام مجلسي البرلمان مجتمعين، ويعرض برنامجه الحكومي الذي يكون موضوع مناقشة أمام كلا المجلسين، يعقبها تصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب.
بيد أن التصويت بالإيجاب على البرنامج الحكومي ومنح رئيس الحكومة الثقة لمباشرة مهامه الدستورية لن يحدث إلا إذا كان الائتلاف الحكومي يضم أحزابا تتوفر من الناحية العددية على “النصف زائد واحد” من مجموع أعضاء مجلس النواب بمعنى (395٪2=198)، وهذا ما يجعل الأغلبية البرلمانية، من الناحية الدستورية والسياسية والبرلمانية، امتدادا طبيعيا للأغلبية الحكومية، لأنه لا يُتَوَقَّع أن يصوت النواب المنتمين للأحزاب المشكلة للتحالف الحكومي ضد البرنامج الحكومي أو سحب الثقة من الحكومة بالتصويت على ملتمس الرقابة لإسقاطها بعد تنصيبها دستوريا وهذا الأمر يسري حتى على عملية التصويت على مشاريع القوانين، حيث تتم عملية التصويت بشكل آلي وتلقائي لفائدة المبادرات الحكومية ومشاريع القوانين ذات الأصل الحكومي التي يتقدم بها أعضاء الحكومة، وهذا ما يجعل الأغلبية البرلمانية وسيلة سياسية بيد الحكومة تساندها على مستوى مؤسسة البرلمان، لأنه بدون وجود أغلبية برلمانية مريحة لن تستطيع الأغلبية الحكومية، مباشرة عملية صناعة التشريع، كما لا تستطيع تمرير قانون المالية باعتباره وثيقة أساسية لتمويل السياسات العمومية وتنزيل المخططات الحكومية القطاعية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
وبالعودة للوثيقة الدستورية، نجدها بدورها خالية من أي تمييز بين الأغلبية البرلمانية والأغلبية الحكومية، بحيث تعامل الدستور مع هذا الطرح على أساس أن الأغلبية البرلمانية هي امتداد طبيعي للأغلبية الحكومية، وأن هذه الأخيرة محصلة سياسية لتحالف القوى الحزبية التي تُكَوِّن بشكل جماعي الأغلبية على مستوى مؤسسة البرلمان، ولهذا نجد المشرع الدستوري لم يتضمن أية فصول تفصل أو تميز بشكل ميكانيكي بين الأغلبية الحكومية والأغلبية البرلمانية، حيث لم يميز المشرع الدستوري بينهما، وذلك على غرار تمييزه بين الأغلبية البرلمانية والمعارضة البرلمانية، مع منحه الأخيرة بموجب الفصل العاشر منه حقوقا تمكنها من النهوض بمهامها الدستورية على الوجه الأكمل. ومن جملة هذه الحقوق نجد: المشاركة الفعلية في المسطرة التشريعية وفي مراقبة العمل الحكومي. أو عبر الفصل 60 منه الذي اعتبر المعارضة البرلمانية مكونا أساسيا في المجلسين، وإن كانت تقنيات العقلنة البرلمانية، التي الهدف منها تقييد سلطات البرلمان، تجعلها غير قادرة على تفعيل الكثير هذه الصلاحيات الممنوحة لها صراحة بموجب فصول الدستور.
ومن المبادئ الدستورية التي تؤطر العمل الحكومي، نجد مبدأ التضامن الحكومي المنصوص عليه في الفصل 93 من الدستور، وهذا المبدأ أكد عليه حتى القانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة، خاصة في مواده 3 و8 و9 و12. وأكثر من ذلك، وفي إطار التكامل الحكومي، يجوز لأعضاء الحكومة، النيابة عن بعضهم البعض بتكليف من رئيس الحكومة في حالة ما تغيبوا أو حالهم مانع أو عائق من مزاولة مهامهم، وهذا معناه أن الحكومة تشتغل كبنية دستورية منتخبة بمنهجية منسجمة وبشكل متضامن ومتكامل، تحت سلطة رئيسها من أجل تنفيذ البرنامج الحكومي في مختلف المجالات، بعد أن يحصل على ثقة مجلس النواب.
وفي سياق التدليل بأن الأغلبية البرلمانية هي امتداد طبيعي وسياسي للأغلبية الحكومية، لا بد من استحضار أن الأغلبية الحكومة الحالية التي تتكون من تحالف ثلاثة أحزاب، لجأت مباشرة بعد حصولها على التنصيب البرلماني، إلى وضع ما عُرِفَ بميثاق الأغلبية، باعتباره مرجعا سياسيا وأخلاقيا ملزما لكل مكوناتها على مستوى الأغلبية الحكومية وعلى مستوى مؤسسة البرلمان، حيث تضمن العديد من المبادئ من بينها التزام جميع هيئات الأغلبية الحكومية بتعزيز التماسك المتين والتضامن المستمر بين مكوناتها، من أجل العمل المشترك والتنسيق الجماعي داخل مجلسي البرلمان وبين وزرائها وفرقها البرلمانية، خاصة حينما يتعلق الأمر بإدخال التعديلات على مشاريع القوانين وإعداد مقترحات القوانين أو طلبات تشكيل المهام الإستطلاعية ولجان تقصي الحقائق، حيث تم إحداث ما يسمى ب”هيئة رئاسة مجلسي البرلمان” التي تتكون من رئيسي الغرفتين المنتميين للأغلبية الحكومية يرأسها، بالتناوب، رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين خلال كل سنة تشريعية جديدة، من وظائفها تنسيق عمل الأغلبية الحكومية بالغرفتين (النواب والمستشارين) إلى جانب “هيئة رئاسة مجلس النواب” التي تتكون من رؤساء فرق الأغلبية الحكومية بمجلس النواب باعتبارها أداة للتنسيق بشأن مشاريع القوانين المعروضة للتصويت وتبني تعديلات مشتركة بشأنها، إضافة إلى “هيئة رئاسة مجلس المستشارين” التي تتكون من رؤساء فرق الأغلبية بمجلس المستشارين الغرض منها التنسيق بشأن مشاريع القوانين المعروضة للتصويت وتبني تعديلات مشتركة بخصوصها، فضلا عن “هيئة رئاسة الأغلبية” التي تتكون من الأمناء العامين لأحزاب الأغلبية الحكومية التي تعقد اجتماعين في السنة مع هيئة رئاسة مجلسي البرلمان ومع فرق الأغلبية بمجلسي البرلمان عشية افتتاح السنة التشريعية الجديدة. وهذا في حد ذاته دليل على عدم صوابية الطرح الذي يميل للفصل العضوي أو الميكانيكي بين الأغلبية البرلمانية والأغلبية الحكومية التي ولدت أصلا من رحم الأولى بالشكل الذي يجعل منها (أي الأغلبية البرلمانية) امتدادا طبيعيا وسياسيا للأغلبية الحكومية على مستوى الغرفة التشريعية بمجلسيها (النواب والمستشارين).
لكن، على ما يبدو في الأيام الأخيرة، أن الحكومة تفتقر لمبدأ التضامن الحكومي المنصوص عليه دستوريا، والذي من المفترض أن يمتد أثره حتى داخل مؤسسة البرلمان، بحيث لوحظ كما لو أننا أمام أغلبية حكومية غير متضامنة وغير منسجمة وغير متماسكة بالشكل الذي يجعلها تصمد أمام انتقادات ومناورات المعارضة البرلمانية، وهو نفس الأمر الذي يسري حتى على الأغلبية البرلمانية داخل مؤسسة البرلمان، حيث لوحظ أن أحد النواب البرلمانيين المنتمين لحزب الأصالة والمعاصرة قام، يوم أمس، بالإعلان عن تقديم استقالته “احتجاجا على ما اعتبره عدم التجاوب الحكومي مع احتجاجات الشباب”، ليتراجع عن ذلك في وقت لاحق ويقرر العدول عنها “مؤكدا التزامه بمواصلة مهامه التمثيلية والنيابية تلبية لتطلعات وانتظارات المواطنين ومواصلة العمل من أجل المصلحة العامة”. وهو نفس السلوك لوحظ بمناسبة برنامج حواري تم بثه على إحدى قنوات القطب العمومي، حيث أكدت إحدى النائبات البرلمانيات عن حزب الأصالة والمعاصرة، أنها لن تجيب عن الحكومة ولن تحل محلها، لأنها ليست عضوة فيها بمبرر أنه يجب الفصل بين الأغلبية الحكومية والأغلبية البرلمانية! بالرغم من استحالة هذا الفصل من الناحية الدستورية والسياسية والواقعية، الأمر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام بخصوص مبدأ التضامن الحكومي المنصوص عليه دستوريا ويختبر مدى جاهزية الأغلبية الحكومية بالالتزام به في ضوء الممارسة السياسية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ يبدو أن ما سمي في وقته ميثاق الأغلبية، لم يصمد طويلا في وجه الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي رافقت التدبير الحكومي للشأن العام، بحيث لم يعد هذا الميثاق سوى مجرد أماني يستعصي أجرأتها الفعلية، ذلك أنه لا التضامن الحكومي ولا ميثاق الأغلبية لم ينجحا في تجنيب مكونات الحكومة من الوقوع في خلافات وتباينات سياسية، حيث لوحظ بمناسبة الاحتجاجات الأخيرة أن حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة يتبرءان من سوء تدبير الحكومة لملفي الصحة والتعليم، بالرغم من كونهما جزءا من الأغلبية الحكومية التي يفترض فيها أن تشتغل وفق مبدأ التكامل والتضامن، لكن العكس هو الذي حصل، حيث لوحظ أن حزب الأصالة والمعاصرة كثيراً ما ينتقد أداء الحكومة رغم أنه عضو فيها، ونفس الأمر بالنسبة لحزب الاستقلال الذي خرج أمينه العام بعدة تصريحات سابقة تنتقد أداء الحكومة ويتبرأ من طريقة تدبيرها لبعض الملفات والقضايا ذات الصبغة الاجتماعية.
لكن، بالرغم من هذه التوترات والتناقضات التي تبدو ظاهريا بين مكونات الأغلبية الحكومية، إلا أنها لن تصل إلى مرحلة تفكك الأغلبية الحكومية، كما لا يمكن تصور انسحاب أحد مكوناتها كما حدث مرتين مع حزب العدالة والتنمية بمناسبة قيادته للأغلبية الحكومية بانسحاب حزب الاستقلال من النسخة الأولى وانسحاب حزب التقدم والاشتراكية من النسخة الثانية، وما يزيد من احتمالية عدم حدوث هذا الأمر، هو أن الحكومة الحالية لم يَتَبَقَّ من عمرها إلا القليل، وأن الانتخابات التشريعية للعام 2026 لا يفصلنا عنها سوى أقل من سنة، ولهذا يمكن تفسير هذا الهروب من تحمل تبعات سوء التدبير الحكومي الذي يقوده حزب التجمع الوطني للأحرار، بكونه مناورة سياسية تفرضها الرهانات الانتخابية المقبلة، حيث يريد كل من حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة تبرئة ذمتيهما من سوء إشراف رئيس الحكومة على الملفات الاجتماعية، أو سوء تدبير بعض الوزراء للقطاعات الحكومية التي يشرفون عليها، وذلك في محاولة منهما لتَحْيِيد وتجنب السخط الشعبي الذي هو بالمناسبة ليس وليد اللحظة، وإنما يعتبر قديما – متجددا، بيد أن الفترة الحالية تشكل المرحلة التي شكلت ذروة أو قمة الانفجار الشعبي والمجتمعي في وجه الحكومة الحالية التي يقودها حزب التجمع الوطني للأحرار بمشاركة حزبي الاستقلال والأصالة والمعاصرة.