رأي

” ومن يعمل مثقال ذرة شرًا” ، نقد ذاتي لـتواطؤ مجتمعي

” ومن يعمل مثقال ذرة شرًا” ، نقد ذاتي لـتواطؤ مجتمعي

في ختام الخطاب الملكي، أتت الآية الكريمة التي تختصر فلسفة العدل والمسؤولية: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره”، هذه الآية وإن كانت توجيها إلهيا منذ 14 قرنا، إلا أنها تحمل في طياتها نقدا اجتماعيا وسياسيا للوضع الحالي الذي نعيشه خاصة عندما نسلط الضوء على “الشر” المتمثل في التواطؤ المجتمعي الصامت الذي يُساهم في إعادة إنتاج نخب ضعيفة وفاشلة في تدبير الشأن العام.

الجميع غاضب من فشل السياسات العمومية، وجيل “Z” خرج للشارع مطالباً بالتعليم والصحة والشغل وتحقيق العدالة الاجتماعية ولكن، ألم يحن الوقت لننتقل من مرحلة تحميل المسؤولية إلى تحملها، أليس حريا بنا في هذه الفترة أن نقطع مع لغة وعقلية الضحية حتى نستطيع مواجهة أنفسنا بالسؤال الأصعب: من أوصل هذه النخب إلى مقاعد القرار أصلاً؟

النقد الذاتي يجب أن يبدأ من جريمة الصندوق الانتخابي، فلا يمكن أن يشتعل الشارع غضباً من البطالة والفساد، وفي ذات الوقت، يُعاد انتخاب من تسبب في هذا الفشل، لأحد ينكر أنه في مرحلة الانتخابات يتحول “الصوت” – وهو أقدس أداة ديمقراطية للتغيير – إلى سلعة تُباع بمبلغ زهيد أو تُقايض بخدمة شخصية أو وعود فارغة، آنذاك نحن بصدد ارتكاب “شر مثقال الذرة” الذي يدمر مستقبل البلاد لأنك عندما تبيع صوتك اليوم يجب أن لا تتوقع تجويد الخدمات الصحية والتعليمية فهذا تناقض لا يستقيم.

جزء كبير من المجتمع يُصوت على أساس الولاء القبلي أو المصالح الفئوية الضيقة متجاهلاً كفاءة المرشح ونزاهته هذا “الشر” الصغير يعيد تدوير نفس الوجوه التي تفشل في صياغة برامج إصلاح واقعية والتي تكرس الزمن السياسي للبلاد في قضاء مآربها والبحث عن سبل تمرير صفقاتها، فالأمر هنا مستحيل في ظل تعاقد تجاري مشبوه مبني على (هاك وأرا). فلا يمكن لمن انتُدِبَ بناءً على المال أو الولاء أو الانتماء القبلي أن ينجز شيئًا، لأن معيار اختياره غير منصوص عليه في دفتر الشروط المرجعية لاختيار مدبري الشأن العام (TDR) مثلاً.

الشر ليس بالضرورة فعلاً تخريبياً صريحاً، بل قد يكون مجرد تخلي عن الواجب والمسؤولية حيث أن جزءا كبيرا من المجتمع لا يزال حبيس الصمت واليأس، التغيب عن الانتخابات أو الاكتفاء بالنقد السلبي من المقهى دون المشاركة في هياكل المجتمع المدني أو الأحزاب، فشر اللامبالاة يترك الساحة فارغة لمن لا يستحق لذا فأنت تلوم فشل الحكومة، ولكنك لم تكلف نفسك عناء محاسبتها أو التصويت ضدها.

أسوء ما نعيشه في عصرنا الحالي ثقافة الـ “دبّر راسك” وهي التخلي عن المصلحة العامة والتركيز فقط على تدبير المصالح الخاصة بعيداً عن هموم الوطن، هو ما يسمح باستمرار الفساد الإداري والسياسي، فعندما نغض الطرف أو نساهم كمواطنين في تفشي الرشوة في مرفق ما (ونسميها القهوة) لأننا نريد قضاء حاجتنا بسرعة، فنحن نُساهم في ترسيخ ثقافة تضييع الوقت والجهد والإمكانات التي حذر منها الخطاب الملكي.

ف متى نرى “مثقال ذرة خيرًا”؟

لا بد أولاً وقبل كل شيء من صحوة مجتمعية ونقد ذاتي عميق حيث أنه لا نستطيع أن نشتكي من حصاد مرير بينما نحن من زرعنا بذوره بـتواطؤ صغير، فالمجتمع يجب أن يتحمل مسؤوليته في تطبيق مبدأ “ثقافة النتائج” بداية من المواطن نفسه ، يجب عليه محاسبة المنتخبين بعد فترة ولايتهم، ليس عاطفيا، بل بناءً على المعطيات والنتائج بالتصويت بكثافة وبشكل عقابي على من أهدر الزمن التنموي للبلاد ،كما يجب على المجتمع تحويل الطاقة الغاضبة إلى طاقة بناءة عبر الانخراط في آليات التأطير المدني والسياسي، والمطالبة الجادة بـ “الحكامة التشاركية الحقيقية”.

إن آية “مثقال ذرة خيرًا” رؤية مجتمعية تتوقف على مدى تحويل هذا النقد الذاتي إلى مسؤولية فعلية في صناديق الاقتراع وفي متابعة التنفيذ، فالتغيير لا يبدأ من فوق بل من القواعد المجتمعية التي تقرر مصيرها بذكاء أو بإهمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News