قراءة في بعض مضامين الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح البرلمان

جاء هذه السنة الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأخيرة من الولاية التشريعية 2026_2021، في سياق مجتمعي يتميز بتنامي منسوب الفعل الاحتجاجي الذي أطلقته فئة شباب “جيل زيد”، والذي يطالب بحقوقه وحقوق جميع المواطنين في مجالات الصحة والتعليم ومحاربة الفساد، وهذا الأمر جعل الجميع ينتظر مضامين الخطاب الملكي بنوع من الترقب، وذلك انطلاقا من الدور التوجيهي للخطب الملكية للعمل الحكومي والبرلماني على حد سواء.
وهنا يمكن القول، إن الخطاب الملكي بمؤسسة البرلمان لامس بالفعل عمق بعض أعطاب الممارسة البرلمانية والحزبية، وذلك انطلاقا من الوظائف التي تضطلع بها هذه المؤسسات الدستورية باعتبارها مؤسسات للوساطة والتمثيلية السياسية وتأطير المواطنين بموجب الدستور، وهو الأمر الذي يمكن تلمسه من خلال دعوة الملك نواب الأمة إلى العمل بروح المسؤولية، لاستكمال المخططات التشريعية، وتنفيذ البرامج الوطنية مع التحلي باليقظة والالتزام في الدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين، وهو الأمر نفسه بالنسبة للقوى السياسية التي يبدو أنها تخلت عن وظيفتي التمثيل والتأطير السياسيين للمواطنين.
وفي هذا الإطار، تم في مستوى أول توجيه خطاب مباشر لأعضاء المؤسسة التشريعية، وذلك قصد القيام بمهامهم التمثيلية والتشريعية والرقابية على أحسن وجه، وذلك انطلاقا من المهام الدستورية التي يفترض أن يضطلع بها هؤلاء النواب. وفي مقدمة ذلك الاهتمام بالدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين، بروح من المسؤولية، قصد الأجرأة الفعلية للمخططات التشريعية، وتنفيذ البرامج الاجتماعية والمشاريع الوطنية، وما يتطلبه ذلك من تعاون وتناغم بين مؤسستي الحكومة والبرلمان بعيدا عن التناقض أو التنافس، لأن الأمر يتعلق بتنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين، وهذا التوصيف الملكي نابع من كون أن البرلمان أصبح في السنوات الأخيرة عرضة للمشاحنات السياسية التي أثرت سلبا على أدائه بل وكانت سببا في هدر الزمن التشريعي، في الوقت الذي يفترض استثماره بشكل أفضل، كما كان لهذه التجاذبات السياسية داخل غرفة البرلمان وقع سلبي على المشاريع الوطنية الرامية للنهوض بالتنمية الاجتماعية وتحسين ظروف عيش المواطنين.
أما في الشق المتعلق بعمل الحكومة، فيبدو من خلال الخطاب الملكي أن هناك نوع من الرضى الضمني، أو على الأقل نوع من الارتياح لأدائها باعتبارها مؤسسة يستحيل عليها النهوض بتحسين ظروف عيش الساكنة بمعزل عن مساهمة مؤسسة البرلمان، التي يجب أن تضطلع هي الأخرى بوظائفها الدستورية في مجالات التشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية وتجويدها إذا اقتضى الأمر ذلك، خاصة وأن العديد من السياسات العمومية التي تتبناها مؤسسة الحكومة يتوقف تنزيلها من الناحية القانونية والإجرائية على اتخاذ بعض التدابير والإجراءات التشريعية التي تبقى من الاختصاصات الحصرية للمؤسسة التشريعية، بموجب الفصل 70 من دستور 2011.
هذا، تزداد الحاجة لضرورة التدخل البرلماني في مجال السياسات العمومية الاجتماعية والترابية …، لأن تفعيلها يقتضي نوعا من التكامل والتضامن الوظيفي بين مؤسستي الحكومة والبرلمان باعتبارهما منتخبين مباشرة من المواطنين، على أساس أن يكون هذا التعاون بشكل يُبَدِّد ويُغَيِّب منطق المعارضة البرلمانية والأغلبية الحكومية، خاصة وأن غلبة التدافع السياسي بالبرلمان يُغَيِّب فرص التنمية أو قد يعرقلها، لهذا وجب أن يكون التكامل بين الحكومة والبرلمان هو المبدأ، خاصة حينما يتعلق الأمر بتنزيل التوجيهات الملكية في مجالات التنمية الترابية ومحاربة الهشاشة والفقر سواء في الوسطين الحضري والقروي.
وفي نفس السياق، يبدو واضحا بأن الخطاب الملكي استحضر أيضا وظيفة الأحزاب السياسية، التي لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزالها في الانتخابات كلحظة سياسية تتصارع فيها جميع القوى السياسية، بل لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن مؤسسة الحكومة، باعتبارها جهازا منبثقا عن اختيارات الإرادة العامة المعبر عنها عبر صناديق الاقتراع، يتعذر عليها أن تشتغل بمعزل عن الدور الدستوري للأحزاب السياسية الذي خصها به الفصل السابع منه، خاصة وظيفة تأطير المواطنات والمواطنين والعمل على تكوينهم السياسي …، لهذا وانطلاقا من هذا الدور الدستوري، فإنه من واجب الأحزاب السياسية أن تقوم، هي الأخرى، بدورها هذا لأنه لوحظ أنها أصبحت تسخر كل قنواتها التواصلية في قضايا ثانوية لا تخدم المصلحة العليا للوطن والمواطنين.
ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب الملكي حَمَّل الأحزاب مسؤولية مباشرة تتمثل في ضرورة القيام بتأطير المواطنين من الناحية السياسية، فضلا عن التعريف بالمبادرات التي تتخذها السلطات العمومية ومختلف القوانين والقرارات، ولا سيما تلك التي تهم حقوق وحريات المواطنين بصفة مباشرة، عوض أن تبقى هذه الأحزاب غارقة في المزايدات السياسية الضيقة والحسابات الانتخابية الظرفية التي لا تنفع المواطن في شيء، بل تضر مصالحه أكثر مما تخدمها، وذلك بالنظر لما يمكن أن ينتج عن هذا التراجع في وظيفة الأحزاب من فراغ قد يهدد السلم الاجتماعي، من خلال محاولة بعض الجهات دفع بعض الفئات من المواطنين والزج بهم في قضايا سياسية لا يتوقعون ما قد ينتج عنها من تداعيات وآثار سلبية على مستقبلهم ومستقبل وطنهم بأكمله. ومن هنا فإنه من واجب الأحزاب السياسية أن تعمل على إدماج المواطنين في الحياة العامة من داخل المؤسسات الدستورية المنتخبة من أجل قطع الطريق على كل محاولات استغلالهم في قضايا لا يقدرون تكلفتها السياسية.
وبالعودة إلى مضمون الخطاب المكلي، يلاحظ بأنه فيه تذكير بخطاب العرش الأخير، وما تضمنه من دعوات إلى تبني جيل جديد من السياسات العمومية يأخذ بعين الاعتبار التحديات والرهانات المستقبلية للبلاد. جيل جديد من السياسات الترابية قادر على تسريع مسيرة التنمية الترابية والمجالية بالمغرب الصاعد، وهو الأمر الذي يحتاج إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية التي تجد مرجعيتها في الديناميات الرامية لتحقيق عدالة اجتماعية أوسع، بالشكل الذي يضمن استفادة الكل من ثمار النمو وتكافؤ الفرص بالمغرب الموحد، وكذا تمتيع جميع المواطنين من فعلية الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا المستوى من الخطاب، يكون جلالة الملك أشار بشكل ضمني إلى مسؤولية المنتخبين بالجماعات الترابية، وذلك حينما قال بأن التحول الكبير الذي نسعى إلى تحقيقه على مستوى التنمية الترابية، يقتضي تغييرا ملموسا في العقليات وفي طرق العمل، وترسيخا حقيقيا لثقافة النتائج. وهنا تبدو الحاجة ملحة لتدخل مؤسسات اللامركزية الإدارية المنتخبة في إطار التنسيق والتشاور والتعاون مع المصالح الخارجية للإدارة المركزية، لأنه يستحيل من الناحية العملية، أن تُترَك الحكومة لوحدها في مواجهة المشاكل والتحديات التي يشهدها الفضاء العمومي مؤخرا، بل لا بد أن يكون تعاطي الدولة مع مختلف المطالب والإكراهات المجتمعية خاصة ما يرتبط منها بقطاعي الصحة والتعليم، وفق مقاربة مكتملة لا تُغَيب الدور الأساسي للجماعات الترابية والإدارات اللاممركزة على الصعيد الترابي.
وعليه، فتدخلات المؤسسات المنتخبة في القضايا التنموية والاجتماعية، يجد سنده في مبدأ التفريع، الذي هو مقتضى دستوري يتطلب نوعا من التكامل ما بين تدخلات الإدارة المركزية والمشاركة الفعلية للمنتخبين المحليين، ويكفي الاستناد لمقتضيات القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات الذي أعطت المادة 80 منه للجهة كتوجه عام وظيفة اقتصادية من قبيل اعداد التصميم الجهوي لإعداد التراب، وبرنامج التنمية الجهوية، والاضطلاع بمهام التنمية الاقتصادية والنهوض بالتنمية المندمجة والمستدامة وتنسيقها وتتبعها، واعتماد التدابير المحسنة لجاذبية التراب وتوطين الأنشطة المنتجة للثروة. ينضاف إلى ذلك ما تضطلع به الجهات وفقا للمادة 82 من تدخلات في مجالات جذب الاستثمارات.
فتحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية باعتبارها طموحا ملكيا، واختيارا استراتيجيا لا رجعة فيه، يجب على جميع الفاعلين الترابيين الانخراط في أجرأته وتنزيله، بما في ذلك مجالس الأقاليم والعمالات التي أناط بها المشرع مهام النهوض بالتنمية الاجتماعية خاصة على مستوى الوسط القروي، وكذا في المجالات الحضرية. لكن شريطة أن تتم تدخلاتها عبر منهجية التعاضد والتعاون بين الجماعات القاعدية المتواجدة بنفوذها الترابي، وذلك لكون أن الأقاليم والعمالات تعتبر مستوى ترابيا وسيطا بين الجهة والجماعة، وشريكا مهما في التنزيل الترابي للسياسات العمومية في مجال مكافحة الفقر والهشاشة.
أما فيما يتعلق بمسؤولية الجماعات القاعدية، فبدورها تبقى قائمة وثابتة سيما وأن المشرع أناط بها مهمة تقديم خدمات القرب للمواطنات والمواطنين وإحداث وتدبير المرافق والتجهيزات العمومية اللازمة، لأن شرعية الإنجاز تقتضي من النخب المحلية التي تسهر على تدبير الشأن الترابي أن تحقق نتائج إيجابية في المجالات الاجتماعية ذات الأولوية والتي يأتي على رأسها التشغيل والصحة والتعليم، وكلما نجحت هذه النخب في تطوير الخدمات العمومية الاجتماعية وتلبية حاجيات المرتفقين، كلما زادت ثقة الأفراد في التنظيمات السياسية التي ينتسب إليها من يدبر شؤونهم مركزيا. وهكذا، فحينما تتوافر مؤشرات شرعية الإنجاز يتغاضى الأفراد عن النقص الحاصل في المصادر الأخرى للشرعية خاصة في ظل أزمة التمثيلية الديمقراطية.
وعليه، يبقى من الضروري أن تضطلع المؤسسات المنتخبة ترابيا والمصالح الخارجية المعينة في إطار اللاتمركز الإداري بصلاحياتها في مجالات التنمية المحلية والتي يجب عليها أن تجعل من تلبية حاجيات الساكنة وتخفيف العبء عن المركز أحد أولوياتها الأساسية، لأنه من غير المعقول في إطار التنظيم الإداري المغربي الذي يجعل من إحدى مرتكزاته الجهوية المتقدمة واللامركزية الإدارية، أن تبقى الإدارة المركزية هي من يضع السياسات العمومية ويتتبع تنفيذها ترابيا، وإلا فما الجدوى من الجماعات الترابية والمصالح اللاممركزة، خاصة إذا لم تقم بوضع برامج الهدف منها تلبية الحاجيات المتزايدة للمواطنين وتشمل المستويين الحضري والقروي، مع إعطاء عناية للمناطق الأكثر هشاشة، بالشكل الذي يراعي خصوصياتها وطبيعة حاجياتها، وخاصة مناطق الجبال والواحات.