رأي

الخـطاب الملـكي وراهنية الحـراك الشبابي: نحو جـيل جديد من المواطـنة التنموية

الخـطاب الملـكي وراهنية الحـراك الشبابي: نحو جـيل جديد من المواطـنة التنموية

يأتي الخـطاب المـلـكي السـامي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الجديدة للبرلمان (10 أكتوبر 2025) في سياق سياسي واجتماعي بالغ الدقة، تتقاطع فيه الديناميات المؤسسية للدولة مع تحولات المجتمع المغربي، ولا سيما بروز حـراك شبابي نوعي يعبّر عن تطلعات جيل جديد من المواطنين إلى المشاركة، والمساءلة، والعدالة الاجتماعية.
إنّ الخطاب الملكي، في بنيته ومقاصده، يقدّم قراءة استراتيجية لمسار “المغرب الصاعد” الذي يقوم على ثلاثية متكاملة: العدالة الاجتماعية، النجاعة المؤسساتية، وتعبئة الطاقات الشبابية.

أولًا: الخـطاب في سياقه الدستوري والسياسي

يعتبر خطاب افتتاح البرلمان لحظة دستورية مميزة في النظام السياسي المغربي، لما يتضمنه من توجيهات ملكية تضبط إيقاع العمل الحكومي والبرلماني، وتعيد ترتيب أولويات الفعل العمومي.
وقد جاء خطاب 2025 ليؤكد أن الولاية التشريعية ليست زمنا انتخابيا، بل مجالا للمسؤولية والإنجاز، داعيًا ممثلي الأمة إلى التحلي بروح الالتزام والنزاهة واستكمال المشاريع المفتوحة بروح نفعية عمومية لا حزبية.

بهذا المعنى، يمارس الخطاب وظيفة مزدوجة: فهو من جهة تأطيرٌ للمؤسسات، ومن جهة أخرى إحياءٌ للثقة العمومية التي تمثل اليوم إحدى المطالب المركزية للحراك الشبابي المغربي، حيث لم تعد شرعية الخطاب السياسي تقاس بالوعود، بل بمدى تجسيدها على أرض الواقع.

ثانيا: العدالة الاجتماعية والمجالية كقاعدة لعقد اجتماعي جديد

يشدد الخطاب الملكي على أن العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست مجرد شعارات، بل توجه استراتيجي يجب أن يحكم كل السياسات العمومية.
ويبرز في هذا السياق مفهوم “المغرب الصاعد” كمشروع مجتمعي جامع يهدف إلى تحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والإنصاف الاجتماعي، وبين المردودية والعدالة.

فالدعوة إلى العناية بالمناطق الجبلية والواحات، وإعادة النظر في التنمية القروية، والتفعيل الأمثل لسياسة الساحل، هي في جوهرها ترجمة ميدانية لمطلب الكرامة الترابية الذي عبّر عنه الشباب المغربي في حركاته الاحتجاجية والتنموية منذ العقد الأخير(1).
هكذا يتحول الخطاب إلى جسر رمزي بين الدولة والمجتمع، بين مركز القرار وصوت الميدان، وهو ما يمنح الدينامية الشبابية شرعيتها المؤسسية داخل مشروع الدولة الوطنية الحديثة.

ثالثًا: الشباب بين الوعي الاحتجاجي والرهان التنموي

تُظهر التوجهات الملكية في هذا الخطاب استيعابًا عميقًا للتحول الثقافي لدى الشباب المغربي، الذي لم يعد يقبل بالوصاية أو الإقصاء، بل يسعى إلى المشاركة المباشرة في صياغة القرار العمومي.
فالحديث عن “تعبئة الطاقات” و”تشجيع المبادرات المحلية” و”توفير فرص الشغل للشباب” لا ينحصر في مقاربة تقنية، بل يعكس تصورًا متكاملًا لمفهوم التمكين الشبابي (Empowerment) كمحرك للتنمية.

إن جلالة الملك، حين يؤكد على ضرورة “تغيير العقليات وترسيخ ثقافة النتائج”، فإنه يفتح الباب أمام جيل جديد من الممارسة السياسية، يقوم على التقييم، والمساءلة، والتدبير بالمعطيات، بدل الخطاب الإيديولوجي التقليدي الذي لم يعد يستهوي الشباب.

ومن هنا تتقاطع إرادة الدولة في تحديث الفعل العمومي مع وعي شبابي نقدي آخذ في التشكل، يطالب بالشفافية والعدالة، ويرفض الزبونية والجمود، دون أن يقطع مع رمزية المؤسسة الملكية كضامن لوحدة الدولة واستمراريتها (2).

رابعا: من الدولـة الراعـية إلى الدولـة الممكـنة

يتجاوز الخطاب الملكي منطق الدولة الراعية (État providence) إلى منطق الدولة الممكنة (État capacitante)، التي لا تكتفي بتقديم الدعم، بل تُمكن الفاعلين المحليين والشباب من المبادرة والإبداع.
فمن خلال الدعوة إلى “استثمار التكنولوجيا الرقمية”، و“الاعتماد على معطيات ميدانية دقيقة”، و“ثقافة النتائج”، يتضح أن الخطاب يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـالذكاء الترابي الجديد، الذي يربط بين العدالة المجالية والتحول الرقمي كرافعتين للدمقرطة التنموية.

وفي هذا الإطار، يشكّل الحراك الشبابي – بما يحمله من طاقات نقدية وابتكارية – فرصة لإعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجتمع، على قاعدة الثقة المتبادلة والمواطنة الفاعلة.

خاتمة: 

نحو جـيل جـديد من المواطـنة التنـموية

إن الخطاب الملكي الأخير ليس مجرد توجيه مؤسساتي، بل هو بيان سياسي في فـلسفة الحـكم الرشيد، يعيد تعريف التنمية بوصفها مشروعا وطنيا جماعيا.
فهو يربط بين الشرعية السياسية والعدالة المجالية، وبين المردودية والمواطنة، ويدعو بوضوح إلى إشراك الشباب لا كشريحة اجتماعية تُستهدف، بل كقوة اقتراحية يجب الإصغاء إليها.

وفي زمن الحراك الشبابي، حيث تتقاطع الوطنية بالرقمية، والاحتجاج بالمبادرة، يضع الخطاب الملكي أسس جيل جديد من المواطنة التنموية:
مواطنة نقدية، مسؤولة، تشاركية، ترى في الدولة شريكًا لا خصمًا، وفي التنمية واجبًا لا شعارًا.

وبذلك، يؤكد الخطاب السامي أن “المغـرب الصاعد” لن يُبنى إلا بجهود جميع أبنـائه، وفي مقدمتهم شبابه، الذين يشكلون اليوم رهان المستقبل وضمان الاستمرارية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News