الريع الجمعوي بالمغرب.. بين شعارات التمكين وواقع تعميق الفوارق

يعد العمل الجمعوي إحدى الركائز الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز المشاركة المدنية، غير أن هذه الدينامية تواجه في المغرب تحديات كبيرة، أبرزها تفشي ظاهرة “الريع الجمعوي”. فبينما يفترض أن يكون الدعم العمومي وسيلة لتمكين الجمعيات من تنفيذ مشاريع تنموية تساهم في تحسين الظروف المعيشية للفئات الهشة، تحول الأمر في كثير من الأحيان إلى آلية لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية، حيث تستفيد بعض الجمعيات من تمويلات ضخمة دون تقديم نتائج ملموسة. الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول شفافية هذه التمويلات، ومدى تحقيقها للأهداف المعلنة، خاصة في ظل غياب رقابة صارمة وآليات تقييم فعالة.
المغرب شهد طفرة في العمل الجمعوي خلال العقود الأخيرة، خاصة بعد إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية عام 2005، والتي ضخت ميزانيات ضخمة لدعم الجمعيات الفاعلة في المجال الاجتماعي. وفقًا للمعطيات الرسمية، تجاوزت قيمة التمويلات المرصودة لهذه المبادرة 50 مليار درهم، وجرى تمويل أكثر من 42 ألف مشروع، استفاد منها حوالي 10 ملايين مواطن. غير أن هذه الأرقام، رغم ضخامتها، لم تنعكس بشكل واضح على معدل التنمية البشرية بالمغرب، حيث تشير تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلى أن جزءًا مهمًا من هذه التمويلات لم يتم تدبيره بالشكل المطلوب، بل ذهب إلى جمعيات تفتقر إلى المهنية والخبرة اللازمة لإنجاز مشاريع مستدامة.
تقارير متعددة تؤكد أن نسبة معتبرة من الجمعيات المستفيدة لا تقدم تقارير مالية دقيقة حول أوجه صرف الأموال، وهو ما يعكس غياب الشفافية في تدبير الدعم العمومي، ويثير الشكوك حول وجود محاباة في توزيع التمويلات. كما أن سوء التدبير أدى إلى تعثر عدد كبير من المشاريع التي كانت تهدف إلى تحسين ظروف الفئات الهشة، حيث أظهرت معطيات رسمية أن حوالي 45% من المشاريع الممولة تعثرت أو لم تكتمل، وهو ما يكشف عن وجود اختلالات عميقة في منظومة الدعم الجمعوي.
الريع الجمعوي لا يتجلى فقط في حصول بعض الجمعيات على دعم متكرر دون تقديم قيمة مضافة، بل يمتد ليشمل سوء توزيع الموارد على المستوى الجغرافي. حيث تستفيد بعض الجهات أكثر من غيرها، ليس بناءً على معايير تنموية واضحة، ولكن وفق اعتبارات قد تكون مرتبطة بعلاقات شخصية أو سياسية. هذا الوضع يكرس التفاوتات المجالية بدلًا من تقليصها، حيث تبقى بعض المناطق تعاني من ضعف التمويل، في الوقت الذي تتلقى فيه مناطق أخرى دعماً يفوق احتياجاتها الحقيقية، دون وجود رقابة على كيفية استخدامه.
التأثيرات السلبية للريع الجمعوي تتجاوز المجال الاقتصادي وتمتد إلى المجال الاجتماعي، حيث تؤدي هذه الظاهرة إلى إضعاف ثقة المواطنين في العمل الجمعوي. فحينما تتحول الجمعيات إلى أدوات لتحقيق مصالح شخصية أو سياسية، بدلًا من أن تكون فضاءات للعمل التطوعي والتنمية، يصبح المجتمع المدني عاجزًا عن لعب دوره الحقيقي في الإصلاح والتغيير. هذا الواقع يعزز مناخ الريبة والشك في المبادرات الجمعوية، ويدفع بالكثير من الفاعلين الحقيقيين إلى العزوف عن العمل داخل الجمعيات، نتيجة غياب تكافؤ الفرص وانتشار ممارسات غير شفافة.
غياب آليات تقييم موضوعية لعمل الجمعيات يجعل من الصعب التمييز بين الجمعيات النشيطة التي تحقق نتائج فعلية، وتلك التي لا تقوم سوى باستهلاك التمويلات دون أثر واضح. في الوقت الذي يتم فيه منح التمويل بشكل متكرر لبعض الجمعيات، تجد جمعيات أخرى، تمتلك الكفاءة والمصداقية، نفسها محرومة من الدعم، مما يحد من قدرتها على إنجاز مشاريع حقيقية تعود بالنفع على المجتمع. وهو ما يتطلب إعادة النظر في معايير توزيع التمويل، بحيث يتم ربطه بمدى تحقيق الأهداف المحددة في المشاريع، مع فرض رقابة صارمة لضمان حسن تدبير الأموال.
من الحلول التي يقترحها الخبراء للحد من الريع الجمعوي، ضرورة فرض شفافية أكبر على تمويل الجمعيات، من خلال إجبارها على نشر تقارير مالية مفصلة، وإلزامها بالكشف عن مآل الأموال التي تتلقاها. كما أن إنشاء منصة وطنية رقمية تعرض بشكل دوري توزيع التمويلات وسير المشاريع سيمكن المواطنين من تتبع كيفية إنفاق المال العام، وسيقلل من فرص الفساد وسوء التدبير. ومن الضروري أيضاً تعزيز دور الأجهزة الرقابية لضمان احترام الجمعيات لمعايير الحكامة الجيدة، واتخاذ إجراءات قانونية ضد الجمعيات التي لا تحترم التزاماتها.
تشجيع الجمعيات الفعالة يجب أن يكون في صلب أي إصلاح مرتقب لمنظومة الدعم الجمعوي. فالهدف ليس تقليص حجم التمويلات المخصصة للجمعيات، بل توجيهها نحو الفاعلين الحقيقيين القادرين على إحداث تغيير إيجابي. هذا يتطلب وضع نظام تحفيزي يكافئ الجمعيات التي تحقق نجاحات ملموسة، ويمنحها أولوية في الاستفادة من التمويل، مع تقليص الدعم للجمعيات التي لا تثبت فعاليتها. كما أن تعزيز الشراكات بين الجمعيات والقطاع الخاص يمكن أن يشكل رافعة جديدة لتمويل المشاريع، بعيدًا عن الريع والتمويلات العمومية غير المضبوطة.
وفي الأخير فإن استمرار ظاهرة الريع الجمعوي من شأنه أن يقوض جهود التنمية في المغرب، ويحول دون تحقيق الأهداف التي تم تسطيرها من خلال المبادرات الوطنية المختلفة. إصلاح هذا الوضع يستدعي إرادة سياسية قوية، وإجراءات عملية لضمان شفافية التمويل، وتحفيز الجمعيات الفعالة، وتقليص فرص استغلال المال العام لأغراض شخصية أو انتخابية. فالعمل الجمعوي الحقيقي لا يمكن أن يكون مرادفًا للامتيازات والريع، بل يجب أن يكون وسيلة لتحقيق التغيير الإيجابي داخل المجتمع، عبر مشاريع حقيقية تستجيب لحاجيات المواطنين وتسهم في تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية.
باحث جامعي في العلوم السياسية-