الدولة داخل الدولة… علة الجزائر.

الكاتب الفرنسي، من أصل جزائري، بوعلام صانصال، بَعث من داخل سجنه في الحراش بالجزائر رسالة تحدِّي لسجَّانه واصفا حكم الجزائر بأنه “ليس دولة، إنه مَفْرَمَة (آلة تقطيع)”… وأنه يتحداه بقوة مبادئه وبقوة تشبته بالحياة وبالأمل…
الكاتب السجين أجمل القول في طبيعة دولة بلاده، لِما سبق له وأن فصَّل فيه، لسنوات من الكتب والمقالات. وزاد على ذلك بأنها ليست وحسب “آلة تقطيع” في التدبير الداخلي السياسي للبلاد، بل هي أصلا تُدير بلدًا جزءٌ من جغرافيته مُقتَطعٌ من الأرض المغربية… وهي حقيقة تاريخية، أعلنها أوّلا الرئيس الفرنسي شارل دوغول… وأكدها باحثون فرنسيون، اسْتَقرَؤوها من وَثائقِ الاستعمار الفرنسي للجزائر… وكان الملك محمد الخامس في مُفاوضات استقلال المغرب رفض المُطالبة باسترجاع تلك الأراضي إلى أصلها المغربي، مُرجئًا أمرَها إلى بحثها مع الدولة الجزائرية المستقلة… في سياق علاقات أخوية مَعها، كان واثقا من إمكانيتها بعد انتصار الكفاح الجزائري، الَّذي قدم له المغرب، ملكا وأحزابا وطنية كل المساندة الفعلية والسياسية والمعنوية…
“الدولة المَفْرَمَة” أوّل ما فعلتهقطعت أوْصال الأخُوَّة مع المغرب، باستفزاز حرب الرِّمال سنة 1963، وبعدها سَعَتْ، ومنذ نصف قرن، إلى اقتطاع أقاليمه الصحراوية منه برعاية ورمٍ انفصالي، تُواصل عبره عداءها للمغرب، في مُحاولة فاشلة لتقزيمه تُرابيا وقطْع امتداده الجغرافي مع إفريقيا…
القيادة الجزائرية انشغلت بعدائها للمغرب… كان لها استراتيجيتها الأساس في تدبير حكمها للجزائر… استفحلت فيها “فوبيا المغرب”… حتى أنها كانت تراه في كلِّ سياساتها، الخارجية والداخلية على السواء، منافسا شرسا لها بدرجة عدوّ… استفردت جبهة التحرير بالسلطة… أبعدت كل المكونات الأخرى للصف الوطني التحرري، وفرضت نفسها حزبا حاكما، مُغلِقًا أمام الحساسيات الشعبية فضاءات المشاركة السياسية ومُتنفسات التعبير الديمقراطية… إلى أن صَحت “يوما” على الغضب الشعبي وهو ينفجر في فضاءات الشأن العام، محمولا في حركة إسلامية، وقد ترهَّل الحزب الحاكم (جبهة التحرير) وخَبا لمعانُه السلطوي… فانساقت البلاد إلى عشرية دموية سوداء، ولم تخرج منها إلاّ إلى تعدُّدية واهنة، بمكونات أغلبها مُصطنع، هشة الارتباطات الشعبية، كما كشفت ذلك نتائج الانتخابات المجالسية والرئاسية… تعددية لا تُخفي هيمنة “العصابة”، كما يقولون في الجزائر، أو الدولة العميقة، على دواليب التدبير السياسي والأمني للبلاد… دولة مستترة خلف كوْمة شعارات تحدي عدوان مفترض يحيق بالبلاد، مصدره، بالتلميح للمغرب مرات وبالتوضيح مِرارًا. وتوغلت الدولة الجزائرية في بنيات “اللادولة”… استشرت فيها سلطوية الجيش وقد تعرَّت من لُفافتها المدنية التي صاحبتها منذ رئاسة بن بلة وإلى مُنتصف العهدة الثانية من رئاسة بوتفليقة… بالموت أو بالانعزال، الموت الطبيعي أو الاغتيالات المبيّتة (أبرزها حالة الرئيس محمد بوضياف)،بالانسحاب الطوعي، أو العزل القسري، فقدت دولة الجزائر العديد من رجال السياسة الأكفاء، مثل عبد الحميد مهري، سيد أحمد غُزالي، محمد بوضياف، علي كافي، الأخضر الإبراهيمي، والطالب الإبراهيمي، مولود حمروش، عبد العزيز بلخادم، واللائحة طويلة…لتخرج، للعلن، الطبيعة العسكرية للنظام مع السيطرة الواضحة على الحياة السياسية لرئيس أركان الجيش الراحل أحمد قايد صالح منذ سبتمبر 2013 وإلى وفاته في دجنبر 2019، وتستمر، مع خلفه السعيد شنقريحة، الوجه الرسمي للدولة العسكرية الكامنة في أروقة الدولة، والمكونة من الراحل الجنرال خالد نزار، الجنرال توفيق (مدين)، الجنرال جبار مهنا وقد انضاف إليهما الجنرال محمد قايدي والجنرال عبد القادر وعرابي… وكلهم، سابقا أو حاليا جنرالات أجهزة الاستخبارات والأمن…
وجود هذه البنية في نظام الجزائر تُضعف بنياتها الأخرى مثل الرئاسة والحكومة والمؤسسات المنتخبة… بل تُفقد الدولة تعريفها باعتبارها “العقل” العام الجامع، المعبِّر والذائد عن إرادة الشعب بكل حساسياته وفئاته…فتكون “دولة” متعددة الطوابق والأجنحة، تحركها مصالح مكوناتها وليس المصلحة العامة… وتسود فيها أدوات القوة العسكرية والأمنية… ويحقُّ، بعدها، لبوعلام صانصال أن يقول، وهو الباحث والمجرِّب، بأنها “مَفْرَمَة”… آلة تقطيع لخارجها ولداخلها…
العداء للمغرب يُلائم الهيمنة العسكرية على نظام الجزائر… يحقق للجنرالات دوام انتفاعهم من حكم الجزائر…حتى وقد باعد ذلك بينهم وبين شعبهم وأعجزهم عن خدمة المصلحة العامة… وأبقى النظام في حالة سوء تغذية شعبية… يُحاول اليومَ علاجها “بقانون التعبئة العامة”، لِكبح آليات الحياة السياسية الديمقراطية لفائدة ولاء مطلق لقيادة، بزعم أنها ترفع تحديات أخطار محدقة بالبلاد… والحقيقة أنها قيادة لا تعمل سوى على تمديد عمر نظام حُكم فقد صلاحياته واستنفذ فائدته، قبل حوالي عشرين سنة… وهو ما أفصح عنه الراحل عبد الحميد مهري، في حينه، وقد كان من أعمدة النظام حتى وفاته سنة 2012… وله تصريح مسجل بذلك، في فيديو منتشر هذه الأيام…
إصرار القيادة الجزائرية على عداء المغرب أوقعها خارجيا في حالة تشنج وتوتر ونفور مع أوسع أطراف علاقاتها الخارجية… أقحمت المغرب في تلك العلاقات، بل به تقيس درجة المس بما تعتبره أمنها القومي… من جهة المساندة للحق الوحدوي المغربي… حساسية مرضية من نجاحات ديبلوماسية مغربية، حققت له اقتناعا دوليا بمقترحه السلمي لحل النزاع حول الصحراء المغربية، عبّرت عنه أزيد من 130 دولة، وضمنها دول حاملة الفيتو في مجلس الأمن ودول وازنة في كل القارات… واقع جعل الخارجية الجزائرية أكبر مُنتج في العالم لبيانات الأسف والتعبير عن الخيبة من الانحيازات الدولية لجهة المغرب… بل أضحت مُدمنة على سحب السفراء، وإعادتهم بدون مقابل… فضلا عن استفزازها لأزمات حادّة مع دول الساحل الإفريقية ومع فرنسا وأزماتها الصامتة مع دول عربية وإفريقية وأوروبية أخرى… في علاقات الجزائر الخارجية “دولة آلة التقطيع” تتحرك في كل الاتجاهات…
تتحسس قيادة الجزائر من كل دولة تعلن إقرارها بالحق الوطني المغربي وتدعم مقترحه بحل الحكم الذاتي ضمن السيادة المغربية للنزاع حول الصحراء المغربية… تغضب، وتقرأ في ذلك “طعنا في كرامة” الجزائر… انتقاصا منها واستصغارا لها وتفضيلا للمغرب على حسابها… إلا مع الإدارة الأمريكية… تلقت اعترافها بالسيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية صعقة أخرستها… وكلما حاولت ملاطفة الإدارة الأمريكية وإغراءها ردت عليها بتأكيد موقفها… زمجرة ترامب أرعبتها، ففوضت أمره لله…
بماذا يواجه النظام الجزائري هذا الوضع؟ …يواجهه بالرفع من سرعة آلية الدِّعاية الاستخباراتية ضد المغرب… يريد المغربَ على مقاسه ويتمنى له نفس عجزه ونفس خيبات فشله… والمغرب لا يُبالي، يواصل حركيته الديبلوماسية بنفس الحماس ويُثابر في تطوير أوضاعه الداخلية بنفس الثقة وبنفس اليقظة المزاوِجة بين الاجتهاد وبين التقويم المستمر…
في الإعلام الجزائري الرسمي، وفي “نفّاثات” الذباب الإلكتروني الجزائري، النشاط محموم من خيال تآمري ضد المغرب… المغرب في ذلك الخيال ليس سوى مؤامرات ودسائس وأطماع وقمع وفقر وانحلال وفساد أخلاقي ومالي وتقاتُل بين المؤسسات والأجهزة… ذلك الخيال في ذلك الإعلام يتوَهّم أن المغرب مُجرد كومات قش، يوجِّه لها نيران حقده علهاتلتهمها… وهو، في الواقع، لا يفعل سوى نسخ نظام الجزائر وسحب حالته على المغرب… وما هي إلا “فَبْرَكات” دعائية استخباراتية، مناعة المغرب وقوّة مؤسساته تستعصي عليها…تنتج فقاعات، تنفجر قبل أن تصل إلى هدفها وتعود عليها بخيبات فشل أخرى…
وها هي تلتقط الجواب على حملتها من واقع المغرب وعلى الهواء مباشرة… المغرب القوي بالالتحام الحار والبادي في كل فضاءات الحياة بين الشعب المغربي والملك محمد السادس… إحياء لعيديْن وطنييْن، هما ثورة الملك والشعب لغشت 1953 وعيد الشباب… عيد يستحضر التاريخ الكفاحي للشعب المغربي وانتصاراته التي أثمرها التفاعل بين إرادتي القوى الشعبية والمؤسسة الملكية… وعيد للتأكيد على تجدُّد ذلك التفاعل بين إرادتين رفعا لتحديات الحاضر لربح المستقبل… تلك الحملة ضد المغرب، كانت هي جواب النظام الجزائري على نداء الملك محمد السادس للحوار والتفاهم… النداء الملكي المغربي يفتح المسار إلى المستقبل ويصدر عن ملك قوي بالتحام شعبه معه وبفعالية دولته ومناعة كيانه… نظام الجزائر يريد للمغرب غير ذلك… يصوره، ضعيفا ويريده عدوا… ولا تهم مصلحة الجزائر… مصلحة الجنرالات أولى… ولا مصلحة لها في مستقبل لا ترى نفسها فيه…