رأي

هل تنجح “أم الوزارات” في تصحيح مسار التنمية البشرية في المغرب؟

هل تنجح “أم الوزارات” في تصحيح مسار التنمية البشرية في المغرب؟

عادت إشكالية التنمية البشرية لتفرض نفسها بقوة في الخطاب الملكي الأخير، حيث طُرحت من جديد بحدة أكبر. فبالموازاة مع الرضا الذي عبّر عنه الملك إزاء ما حققه المغرب من إنجازات معتبرة في مجالات متعددة، أبرز في المقابل عدم رضاه عن حصيلة الجهود المبذولة في مجال التنمية الاجتماعية، وخاصة ما يتصل بتحقيق العدالة المجالية والتنمية في العالم القروي.

وفي ظل هذا الاختلال، يغدو الإنسان، الذي يُفترض أن يكون جوهر التنمية وغايتها القصوى، مجرد رقم عابر في جداول الإحصاء، ما يجعل أثر السياسات العمومية على الواقع المعيشي للمواطن محدودًا، كما أكّد الخطاب الملكي ذاته. وإذا كان المغرب قد راكم نجاحات لافتة في مجالات البنية التحتية، والدبلوماسية، والتحول الطاقي، فإن استمرار التعثر في ورش التنمية البشرية يكشف عن مفارقة صارخة: بلد يسير بسرعتين متناقضتين؛ إحداهما تتقدم بخطى واثقة نحو المستقبل، وأخرى مثقلة بأعطاب الماض والحاضر.

في مقالي الأخير المعنون بـ: «لماذا لا تتحسن مؤشرات التنمية البشرية بالمغرب؟»، بيّنت أن الأزمة أعمق من مجرد تعثر ظرفي في التدبير أو قصور في حجم الإمكانات المالية الضخمة التي رُصدت وما تزال تُرصد. إنها في انعكاس لاختلالات بنيوية تَسِم المنظومة الإدارية والسياسية برمتها. فالمشكل لا يقتصر على ضعف الحكامة، بل يمتد إلى غياب ثقافة مؤسساتية راسخة تجعل من الفعالية والمساءلة قاعدة للعمل العمومي، بدل أن تظل مجرد شعارات عابرة.

كما أن ضعف التنسيق البنّاء والمسؤول بين الفاعلين لا يمكن اختزاله في تضارب تقني للاختصاصات، بقدر ما يعكس أزمة ثقة عميقة بين الدولة والمجتمع. يضاف إلى ذلك ارتهان القرار العمومي لحسابات انتخابية ضيقة، وهو ما يؤكد أن اللحظة السياسية القصيرة ما تزال تتغلب على الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى، الأمر الذي يعيق كل إمكانية لتراكم تنموي فعلي ومستدام. وفوق هذا كله، يظل الفساد، بما يتفرع عنه من شبكات للريع والمحسوبية والزبونية، عاملاً مهيكلاً يُفرغ السياسات من محتواها، ويحوّل الموارد المرصودة للتنمية إلى غنائم موزعة، بدل أن تكون رافعةً لخدمة الصالح العام.

في ظل الحكومة الحالية، لم تعد أزمة التنمية مجرد خلل في التدبير أو ضعف في الموارد، بل برزت كمنظومة أعطاب مترابطة تشكّل عائقًا بنيويًا أمام تفعيل مضامين التوجهات الملكية، وتدفع بالمواطن إلى الهامش كعنصر ثانوي داخل معادلة سياسية مغلقة. وإذا كانت هذه الأعطاب قد تراكمت عبر حكومات متعاقبة، فإنها اليوم بلغت مستوىً أكثر تعقيدًا وتجذرًا، بحيث تحولت إلى بنية فشل ممنهجة تعيد إنتاج ذاتها مع كل محور من محاور التنمية البشرية، لتستنزف ميزانية الدولة وتثقل كاهل المواطن في آن واحد، ضمن سياق عالمي ووطني موسوم بأزمات متلاحقة، متداخلة، ومعقدة وغير متوقعة.

ويزداد الوضع تازما مع الغياب شبه التام لنقاش عمومي جاد حول تحديات التنمية البشرية وانعكاساتها المباشرة على حياة المواطن، في ظل ضعف المعارضة في أداء وظيفتها الدستورية في المراقبة والتنبيه. هذا الفراغ فتح المجال أمام مواجهة غير مسبوقة بين الحكومة ومؤسسات الحكامة، حيث تحوّل المشهد السياسي إلى “صراع مؤشرات”: حكومة متشبثة بخطاب إنجازات وردية، تردّ على التقارير الرسمية باتهامات تنسبها إلى “حقد دفين”، في مقابل مؤسسات دستورية تواصل كشف الحقائق وتحمل مسؤولياتها التاريخية أمام الله الوطن، والملك.

غير أن الأخطر في هذه المواجهة لا يتمثل في تضارب الأرقام أو اختلاف القراءات، بل في ما أفضت إليه من تآكل الثقة داخل بنية الدولة نفسها. فقد بلغ الأمر أن أحد قادة الحزب الحاكم لم يتردد في الطعن في مشروعية تعيين بعض رؤساء مؤسسات الحكامة بدعوى انتمائهم الحزبي، وهو ما يكشف عن هشاشة الروابط بين الفاعلين داخل النسق السياسي، وعن تراجع الحد الأدنى من الانسجام المؤسسي الضروري لتدبير ورش استراتيجي بحجم التنمية البشرية وبناء الدولة الاجتماعية.

أمام هذا الجدل السياسي غير المسبوق، بدا التدخل الملكي من منطلق دستوري خطوة طبيعية وضرورية، إذ مثّل خطاب العرش لحظة فاصلة لإيقاف حالة الفوضى المؤسساتية وإعادة ترتيب الأولويات الوطنية. ومن زاوية تحليلية، وفي نظري المتواضع، لم يكن الخطاب مجرد تشخيص للوضع، بل تحكيمًا ملكيًا حاسمًا يرسم خارطة طريق ملزمة للتعامل مع تعقيدات الواقع المغربي.

وقد اتسم هذا التحكيم الملكي بالانحياز الواضح إلى ثلاثة أبعاد متكاملة: الانحياز للحقيقة، من خلال الاعتراف الصريح بالتناقضات التي تُظهر تقدّمًا في بعض القطاعات يقابله تعثّر بنيوي في أخرى؛ والانحياز للمواطن، وخاصة الفئات الواسعة التي تعيش في “السرعة الثانية”، حيث تتفاقم مظاهر الفقر والهشاشة ويترسّخ الشعور بالإقصاء؛ ثم الانحياز للوطن، لأن الاستمرار في إنكار الواقع أو تأجيل الإصلاح لا يؤدي سوى إلى تفاقم الأزمات وتهديد التوازنات الاجتماعية والسياسية والاستراتيجية للدولة.

مباشرة بعد الخطاب الملكي، وفي خضم الاحتفال بعيد العرش، تولّت وزارة الداخلية، بتعليمات ملكية مباشرة، مسؤولية تصحيح مسار التنمية البشرية، لتصبح الجهة المكلفة بتحويل التوجيهات إلى واقع ملموس. ويعكس هذا التدخل تجسيد الدولة كإرادة تنظيمية عليا قادرة على إعادة ترتيب الأولويات، وترميم الثقة بين المؤسسات، وتحقيق التوازن بين الممكن والمرغوب عبر إعداد جيل جديد من البرامج. لكن السؤال الجوهري يظل مطروحًا: هل تكفي الإرادة العليا وحدها لتجاوز منظومة أعطاب متراكمة منذ عقود، أم أن الإصلاح يحتاج أيضًا إلى إعادة بناء عميقة لثقافة العمل العمومي وآليات الحكامة الديمقراطية؟

يبدو أن التحدي لا يكمن في صياغة “جيل جديد من البرامج” بحد ذاته، بل في قدرة الفاعلين المعنيين على تحويل هذه البرامج إلى أدوات فعلية للتنزيل الميداني وللتصحيح التدريجي للاختلالات. فالمسألة تتجاوز الجانب التقني للبرامج لتلامس جوهر سؤال الثقة والقدرة على التنفيذ: هل نحن أمام مقاربة جديدة للتنمية، أم مجرد إنتاج وثائق إضافية تُضاف إلى رفوف المؤسسات؟

الرهان الحقيقي إذن يكمن في قدرة هذه البرامج على تقليص الفوارق بين “السرعتين” اللتين تتحرك على إيقاعهما البلاد، أو على الأقل الحد من اتساع الهوة التي تتسع يومًا بعد يوم كما يتسع ثقب الأوزون. وهنا تتجلى الفلسفة العميقة للخطاب الملكي: فالمطلوب ليس مجرد تصحيح مسار التنمية، بل إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس العدالة المجالية، والمواطنة الفاعلة، والإنصاف الاجتماعي.

إن إعداد جيل جديد من برامج التنمية المجالية، كما أكدت مذكرة وزارة الداخلية نفسها، ليس مجرد عملية تقنية أو بروتوكولية، بل يقتضي انخراطًا فعليًا وفعّالًا لكل الفاعلين المحليين. غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: هل المنتخبون المحليون، الذين تفرزهم صناديق الاقتراع غالبًا من بين نخب محدودة الكفاءة وضعيفة الاستعداد لمواكبة المشاريع التنموية الكبرى، مؤهلون فعلًا لتحمل هذا الدور؟ فإذا كانت النخب العليا داخل الوزارات قد تعثرت في تنزيل التوجهات الملكية في ملفات استراتيجية كالتعليم، والتشغيل، والصحة، وحتة ازمة الماء، فكيف يمكن التعويل على مستويات جهوية ومحلية تفتقر في معظمها إلى الكفاءة المؤسسية والقدرة التدبيرية، حسب تقارير وزارة الداخلية نفسها؟

هنا يبرز البعد الاستراتيجي لتدبير الموارد البشرية: فلا تنمية حقيقية من دون استثمار في العنصر البشري، باعتباره المورد النفيس للدولة والفاعل المركزي في إنجاح كل البرامج الإصلاحية. الأمر يتجاوز مجرد إعداد وثائق أو الإعلان عن برامج، ليطرح ضرورة إعادة بناء نخب وطنية مؤهلة، ذات كفاءة معرفية وخبرة عملية وقيم أخلاقية، قادرة على استيعاب الرؤية الملكية وتحويلها إلى مشاريع واقعية. وبهذه الطريقة فقط يمكن إرساء قاعدة صلبة للعدالة المجالية والتنمية الشاملة، بعيدًا عن الأدوار الشكلية والتمثيل الانتخابي المحدود.

وفي مواجهة هذا العائق البنيوي، الذي يستوجب إيجاد علاقة متوازنة بين المال والكفاءة كمعيار لاختيار النخب السياسية، يمكن التعويل على ضمانات قوية لنجاح تصحيح مسار التنمية البشرية وفق هذه المقاربة. أولاً، الإشراف الملكي المباشر، الذي يمنح العملية صرامة ومصداقية ويحول دون الانحراف عن الأهداف الاستراتيجية الوطنية. ثانياً، إشراف وزارة سيادية غير مرهونة بالحسابات السياسية الضيقة، مما يتيح تبني قيادة تنموية مسؤولة قادرة على الموازنة بين الطموحات الوطنية والمصالح الجزئية أو الحزبية. ثالثاً، تفعيل دور الولاة والعمال كأطراف مركزية في تصميم وتنفيذ برامج التنمية المجالية والقرب، مع متابعة ميدانية دقيقة لكل جهة على حدة، بما يضمن تكييف الجيل الجديد من البرامج وفق خصوصياتها المحلية واحتياجات سكانها الفعلية.

هذا النهج يمكن أن يجعل جزءًا من التوجيهات الملكية قابلة للتنفيذ على أرض الواقع بشكل منصف وعادل، ويعيد ولو بشكل جزئي المواطن إلى مركز عملية التنمية، بعيدًا عن أن يكون مجرد رقم في معادلات بيروقراطية أو أداة مؤقتة واستعراضية للأحزاب في الحملات الانتخابية، كما شهدنا في الجدل الذي رافق “مول النعناع” خلال انتخابات 2021. ويشير هذا الجدل أيضًا إلى أن المواطن لا يجب أن يبقى مجرد متفرج أو أداة بيد الاحزاب، بل يمكنه أن يكون عاملًا فاعلًا في المشاركة السياسية الحقيقية، سواء كان ناخبًا أو منتخبًا، من أجل إحداث التغيير وإرساء الديمقراطية العملية.

إن تصحيح المسار في هذه المرحلة الدقيقة لا يقتصر على مراجعة البرامج أو تحسين الآليات فحسب، بل يمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على ترجمة رؤيتها الاستراتيجية إلى واقع ملموس. فـ”أم الوزارات” ستلعب دورًا محوريًا في ضمان انسيابية المرحلة الانتقالية قبيل انتخابات 2026، لتكون الضامن الأول لاستمرارية المشاريع الكبرى واستقرار السياسات العمومية. وإشارة الملك إلى هذه الاستحقاقات لم تكن شكلية، بل حملت في طياتها رسالة واضحة: الشعب والمؤسسة الملكية ينتظران حكومة قوية ومتجانسة، قادرة على جعل التنمية البشرية أولوية استراتيجية، حيث يحظى المواطن في كل جهات الوطن بنفس الحقوق والواجبات.

وأعمق من ذلك، فإن هذا المسار يحمل بعدًا وجوديًا للدولة والمجتمع على حد سواء. فنجاح تجربة العدالة المجالية والدولة الاجتماعية لا يعزز مصداقية السياسات الداخلية فحسب، بل يرسخ كذلك موقف المغرب دوليًا، ويمنح القوة الأخلاقية والسياسية للحسم النهائي لملف الصحراء المغربية. وهنا تتلاقى الشرعية الداخلية مع الاعتراف الدولي: دولة تعيد صياغة علاقتها بمواطنيها، وتحوّل التنمية إلى أداة للعدالة، والعدل إلى رافعة لتعزيز تأثيرها الدولي ومصداقيتها على الساحة العالمية، في مشهد يعكس أن الدولة القوية تبدأ من داخلها قبل أن تعزز حضورها ونفوذها “الناعم” على المستوى الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News