إدالي: المغرب لاعب محوري بمعادلة الهجرة العالمية وليس دركيا لأوروبا

في ظل تصاعد التوترات بين بعض المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء ومواطنين في عدد من المدن المغربية، ووسط تحولات جيوسياسية واقتصادية تجعل المغرب في قلب العاصفة الهجرية، يسلط محسن إدالي، أستاذ التعليم العالي المتخصص في الجغرافيا السياسية وشؤون الهجرة ومدير قطب الدراسات في الدكتوراه بجامعة السلطان مولاي سليمان، الضوء على خلفيات هذه الظاهرة وتعقيداتها.
إدالي يؤكد أن الهجرة ليست عائقا للتنمية بل موردا بشريا وثقافيا ينبغي توظيفه بذكاء، داعيا إلى التعامل مع الظاهرة برؤية براغماتية تحفظ حقوق الجميع وتنسجم مع التزامات المغرب الدولية.
ويحذر الباحث من مخاطر نزيف الكفاءات نحو بلدان الشمال، معتبرا أن استرجاع العقول المغربية رهين بخلق بيئة استثمارية ومهنية منافسة، كما يوضح أن المغرب لم يلعب دور “دركي الهجرة” بالمفهوم التبسيطي، وإنما حافظ على سيادته ومصالحه ضمن علاقاته الدولية.
كما توقف عند عودة الخطاب العنصري في الغرب ضد الجاليات المهاجرة، مشيرًا إلى تداخل أبعاد سياسية وجيوسياسية وثقافية تغذّي هذا الخطاب، ومؤكدا أن المرحلة الحالية تتطلب تنسيقا دوليا أوسع لضمان حقوق المهاجرين وتعزيز قيم التعايش.
في ما يلي نص الحوار:
تشهد العديد من المدن المغربية في الآونة الأخيرة ارتفاعا لحالات العنف والعنف المضاد، ما بين بعض مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء والساكنة المحلية، مما يطرح العديد من التساؤلات المقلقة، ما رأيكم في ذلك؟
يبدو أن هذه الأحداث المتواترة التي شهدتها عدد من مدن المغرب في الآونة الأخيرة، لا تخرج عن السياق الذي تشهده في عدد من الدول الأخرى المستقبلة للمهاجرين. وكما هو معلوم، فإن كل حركة هجروية أو تدفقا لأقليات معينة له بعد إيجابيا، وأيضا بعض الممارسات التي تصنف في خانة السلبية، وهذا أمر طبيعي يرتبط بمفهوم الغيرية من جهة، وبخصوصيات كل الأطراف المعنية بالهجرة من جهة ثانية، على مستوى الثقافة والإيديولوجيا والدين والتمثلات والمعيش… إلخ.
ولما كان المهاجر هو الحلقة الأضعف في السلسلة، لكونه انعزل عن عالمه وثقافته ومجتمعه وذكرياته، وولج عالما مبهما يفتقد الدعم في غالب الأحيان، ومنعدم الامكانات بمنسوب خوف مرتفع جدا، نجده متوترا وغير متوازن وقابل للتوظيف من طرف الآخرين لأهداف غير سليمة، وهدا قد يتطور لثقافة التعصب والتمرد على الأوضاع السائدة وممارسة العنف بكل أشكاله. ورغم محدودية هذه الأحداث في بلادنا فإن الحذر واجب وأخد الأمور بالجدية والمسؤولية اللازمة من طرف كل المتدخلين مسألة هيكلية دون تضخيم للأمور أو تبسيط مفرط، فعلينا أن نتعامل مع الحالات في وقتها المناسب، ومكانها الصحيح، وبالشروط التي تتناسب معها؛ ضامنين بذلك حقوق هؤلاء المهاجرين، ولكن دون التفريط في حقوق الساكنة المحلية التي ستتعايش معهم.
في خطابه الأخير بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربع جلالته على عرش أسلافه المنعمين، ذكر صاحب الجلالة أن بلادنا تعتبر حاليا من الاقتصادات الصاعدة لما حققته من مؤشرات هامة على مستويات متعددة رغم الظرفية الصعبة التي تتميز بالجفاف والصراعات الجيوسياسية والتضخم العالمي إلى غير ذلك. كيف ترون دور الهجرة والاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء في المساهمة في هذا النمو الذي يعرفه المغرب في السنوات القليلة القادمة؟ وأيضا ما دور الجالية المغربية بالخارج التي تناهز ست ملايين مهاجر في هذه النهضة الاقتصادية التي تشهدها بلادنا؟
العلاقة ما بين الهجرة والتنمية هي علاقة جدلية، ولا يمكن أن ننظر للمهاجرين كعوائق تنموية أو كعقبة في مسار التنمية التي يشهدها المغرب أو البلدان الأخرى، بل بالعكس يجب أن ننظر إلى المهاجر كمساهم في التنمية باعتباره طاقة حيوية علينا أن نحسن التعامل معها، وأن نوظفها بشكل أمثل ومندمج ومتفاعل.
بلادنا التي تشهد نهضة تنموية تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة في أمس الحاجة إلى كل العقول وكل الكفاءات وكل الثقافات، قوتنا في تعدد ثقافتنا وتراثنا المادي واللامادي، وتاريخنا الموغل في القدم ببعده الروحي النافذ، وأصالته المفعمة بالرزانة والتعايش وحسن الجوار.
كما أنه لا يمكن تحقيق شروط وأهداف التنمية وفق النموذج التنموي الجديد، الذي وضع خارطة طريقه صاحب الجلالة، دون مساهمة فعلية لجاليتنا بالخارج، والتي ما فتئت تؤكد حسها الوطني وأدوارها المتقدمة والهيكلية في تنمية بلادنا.
وعليه، وجب توفير كل الفرص والآليات من أجل تمكينها من لعب أدوارها على الوجه الأمثل، فهي قوة اقتراحية وكفاءات على أعلى مستوى وعائدات مادية هامة في مجال الاستثمار، دون نسيان الجانب الدبلوماسي القوي للجالية، لكونها توجد في الصفوف الأولى للمرافعة على قضايا الوطن في كل أنحاء العالم.
يشهد المغرب، على غرار عدد من بلدان الجنوب، نزيفا للكفاءات وهجرة للأدمغة والأطر في اتجاه بلدان الشمال، في نظركم ماهي خطورة هذا الواقع؟ وكيف يمكن التعامل معه للاستفادة من هذه الأطر والأدمغة في بلادنا؟
لا أحد ينكر أن هناك نزيفًا للأطر والكفاءات من بلدان الجنوب نحو بلدان الشمال، وبلادنا لم تسلم من هذا الواقع، حيث نجد كفاءات مغربية في كل التخصصات تكونت في بلادنا لسنوات وبعد تخرجها ونضجها العملي، تهاجر نحو بلدان الشمال، وهذه خسارة كبيرة لاقتصادنا وتنميتنا وتنافسيتنا، وهذا الواقع يسائلنا جميعا عن الدوافع والأسباب التي ساهمت في قرار الهجرة هذا.
ومن المعلوم أن الفرص الأحسن والإمكانات الأقوى والوضعية الاعتبارية التي تقدر الكفاءة وتمنحها تمكينا متقدما ووسائل الابتكار والإبداع، وحياة تليق… هي الدوافع الرئيسة لقرار الهجرة هذا، وهذه خسارة كبيرة لكل البرامج التنمية للبلد مع كامل الأسف.
إن معالجة هذه الوضعية وإيقاف هذا النزيف مرتبط أساسا بالتنمية في شموليتها، وتنويع فرص الاستثمار في بلادنا وخلق مناخ أعمال تنافسي من خلال تقديم نفس الامتيازات التي تدفع الكفاءات للهجرة، على أن ما يشهده المغرب حالياً من نمو في قطاعات صناعية كالسيارات والطائرات والجانب السياحي والطرق والبنية التحتية واقتصاد الرياضة والأوراش الكبرى المفتوحة، وبالسواعد والعقول المغربية، قادر على أن يقلب المعادلة لنشهد عودة لهذه الكفاءات لبلادها.
يرى عدد من المتخصصين أن المغرب لم يبرح دور “الدركي” في علاقته مع دول الشمال في قضايا تدفق مهاجري إفريقيا جنوب الصحراء. ما رأيكم في هذا الطرح؟
هي وجهات نظر تختلف حسب محددات متعددة، تغذيها طروحات جيوسياسية وإديولوجية وسوسيو-اقتصادية… تتغير باستمرار، المتفق عليه في الجانب السياسي أنه “لا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل مصالح دائمة”. وكل بلد يعمل على صيانة مصالحه في عالم متقلب وغير مستقر، وتحريك الأوراق الحساسة ومنها ورقة المهاجرين في كواليس المفاوضات والمرافعات والتنافسية، مسألة ضرورية، ولها مقاييس وأبعاد تتطلب حنكة جيوسياسية وبعد نظر، واختراقات دبلوماسية ذكية وتنازلات مدروسة قد تكون مؤلمة لكنها تدخل في اللعبة السياسية. لذلك، فإن توظيف ورقة الهجرة كان ولازال وسيظل لأهداف معلنة، وأخرى غير معلنة، سياسية واقتصادية وثقافية وقيمية، إلى غير ذلك من التوظيفات.
وبالتالي ليس من السهل التعامل مع هذا المعطى وإطلاق هكذا أحكام قيمة، فالمغرب لم يلعب دور الدركي بالمفهوم المطلق والمجرد، ولكن هو يلعب الدور الذي يجب أن يلعبه في إطار احترام سيادته الوطنية، وصيانة حقوقه ومصالحه، وأيضا في إطار علاقاته الدولية المتميزة والتي تعطيه مصداقية أمام المنظمات الدولية في هذا المجال.
هل في نظركم يمكن اعتبار المملكة المغربية كبلد في قلب عاصفة الزخم الهجروي بكل تجاذباته الجيوسياسية والقيمية والسوسيو-اقتصادية، مما يفرض على المغرب تعاملا خاصا ونظرة استشرافية ذكية وبراغماتية رغم منسوب المخاطر المرتفعة بها؟
بالطبع، موقع المغرب هو موقع استراتيجي، فهو بوابة أوروبا بالنسبة للأفارقة، وبوابة إفريقيا بالنسبة لأوروبا والعالم الغربي عبر التاريخ، وسيظل دائما يلعب نفس الدور مستقبلا، وبالتالي كان ولازال وسيظل في قلب هذه التجاذبات سواء على المستوى الجيوسياسي، والقيمي، والسوسيو-اقتصادي والثقافي. وهذا عامل ضاغط على الحكومات المغربية، وعلى السياسات العمومية، وعلى كل الفرقاء في هذا الجانب.
لقد بذل المغرب مجهودا جبارا باعتراف المنظمات الدولية في هذا الإطار، فهو أول بلد قام بتسوية وضعية المهاجرين غير القانونيين في بلادنا، ومكنهم من كل الحقوق المدنية، وأيضا طرح استراتيجية وطنية للهجرة واللجوء، وهي تدابير شجاعة لا نجد مثيلا لها بالمنطقة، علما أن المناطق التي ينطلق منها هؤلاء المهاجرون تعرف توترات سياسية وعدم استقرار، وأوضاع اقتصادية صعبة، وبالتالي فهناك تدفقات شبه يومية للمهاجرين هروبا من هذه الأوضاع، والكثير منهم أصبح يستقر في بلادنا بشكل دائم، مما يفرض تعاملا ذكيا وبراغماتيا بالشكل الذي يضمن مصالح بلادنا ويحترم هؤلاء المهاجرين طبقا للمواثيق الدولية.
بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للمهاجر، وباعتباركم باحثا في قضايا الهجرة واللجوء، بماذا تفسرون العودة المقلقة للخطاب العنصري تجاه الجالية المغربية في عدد من الدول الغربية في الآونة الأخيرة وتصاعد حركات اليمين المتطرف؟
كل المتتبعين في الفترة الراهنة لاحظوا في عدد من دول الشمال؛ خاصة بإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وأيضا بالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، عودة مقلقة لخطاب عنصري متطرف ارتبط بتنامي اليمين المتطرف بهذه البلدان، وهذا يمكن قراءته من ثلاثة أبعاد:
البعد السياسي، كما نعلم في الجانب السياسي هناك تجاذبات داخلية بهذه البلدان، ودائما هناك توظيف لورقة الهجرة والمهاجرين من أجل بلوغ أهداف سياسية؛ أو لنقل سياسوية واستمالة الناخبين، ودغدغة مشاعرهم من خلال خطابات تتماهى والساكنة الأصلية، وتثير نعرة الخوف من الأجانب في إطار أزمة غيرية بهذه البلدان.
هذا المعطى نجده بمقاييس تختلف من بلد لآخر وداخل البلد من منطقة لأخرى، ارتباطا بالمصالح الراهنة والإرث التاريخي والأوضاع الاقتصادية، علما أن العولمة الكاسحة وقوة الوسائط وتوغلها في معيش الفرد خلخل العديد من التوازنات السابقة والتقليدية، وساهم في كثير من الحالات في تشويه الآخر (المهاجر) وتلفيق كل السلبيات له، وما لاحظناه في عدد من بلدان الشمال وخاصة إسبانيا وفرنسا… لا يخرج عن هذه القاعدة، فهي موجة تغذيها كيانات سياسية متطرفة لها أهداف غايات محددة.
البعد الجيوسياسي، فكما تعلمون هذه البلدان هي في تنافس فيما بينها، تنافس على كل المستويات، احتدم بشكل كبير بفعل وباء كوفيد-19 وما يشهده العالم من أزمات: التغير المناخي، حرب أوكرانيا والشرق الأوسط، إضافة للتضخم… وبالتالي فهي لا تتأخر في توظيف أي ورقة لكي تتموقع وتضمن لنفسها تنافسية أقوى في الجانب الجيوسياسي.
البعد السوسيو ثقافي، نظرا لأزمة القيم في عدد من البلدان بفعل العولمة، وبما تشهده هذه البلدان من تحولات ومن تغير اجتماعي، انعكس على تكريس منطق التعصب للذات، وكراهية الآخر.
وبالتالي فدول الجنوب تأثرت هي أيضا بهذا المعطى الذي أصبح يكتسح ويتماهى مع قيم غريبة وشاذة في كثير من الحالات، سواء في بلدان الانطلاق أوفي بلدان الوصول. وعليه، يمكن اعتبار المرحلة الراهنة مرحلة تجاذبات على مستوى قضايا الهجرة واللجوء في كثير من نقط العالم، تتطلب جهود كل المتدخلين في هذا المجال في إطار احترام تام لحقوق الإنسان.