رأي

الدولة الاجتماعية..تحولات الفعل العمومي وثقافة التقييم

الدولة الاجتماعية..تحولات الفعل العمومي وثقافة التقييم

رئيس المرصد الوطني للتنمية البشرية

يشكل الورش الملكي الكبير للدولة الاجتماعية، باعتباره ورشا ينتمي إلى الزمن الاستراتيجي في أفقه الإِصلاحِي وطبيعته المُهيكلة التي تستشرف بناء نموذج اجتماعي جديد، تحولاً جذرياً لِمُحدِّدات العلاقة بين المواطن والدولة، كما طالت آثاره بشكل عميق كل منظومة الفعل العمومي في أبعادها ذات الصلة بالسياسات، والقيم، ونموذج الحكامة.

في هذا الإطار، نسجل أن ورش الدولة الاجتماعية أحدث تحولاً نوعياً في مقاربات ومضمون السياسات الاجتماعية، وكذا على صعيد إعادة بناء الهيكلة المؤسساتية المناسبة لتحقيق أهدافه، مع ما تقتضيه من جهود المبادرة والتنسيق والتواصل، ذات الصلة بملف مُركب يحمل الكثير من القطائع والتحديات المجتمعية والتدبيرية.

الاهتمام بالمسألة الاجتماعية كإطار للتعاون والتضامن بين مختلف المتدخلين العموميين والمجتمع المدني من داخل تصور مبني على قيمة الكرامة والأطروحة المجتمعية تجعل من المسألة الاجتماعية ورشا مؤسساتيا لإصلاح منظومة السياسات الاجتماعية بالمغرب يتأسس على التقائية البرامج المبنية على النتائج.

ويسترعي ورش الدولة الاجتماعية تسجيل أربع ملاحظات أساسية:

  1. يسمح تتبع دينامية الورش الملكي للدولة الاجتماعية، بالوقوف للمرة الأولى على انتقال الاهتمام بالمسألة الاجتماعية من دائرة التدبير القطاعي الصرف، ثم فيما بعد من دائرة السياسات العمومية إلى مستوى السياسة العامة، وهو ما يعني في تقاطع لافت بين اللغة المعيارية لدستور 2011 ومعجم التدبير الحديث، انتقالا مؤكدا إلى دائرة الفعل الاستراتيجي، على نحو يمكننا من القول بعيدا عن أي استعارة مجازية، أن الدولة الاجتماعية هي الوجه الآخر للدولة الاستراتيجية، باعتبارها إعادة تعريف يومي للسياسة كاختيارات كبرى للأمة وكحرص دقيق على ملائمة التدابير والسياسات مع الغايات المُهيكلة للمشروع المجتمعي الذي يقوده جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
  2. تمثل الدولة الاجتماعية مساراً حاسماً في دينامية إخراج المسألة الاجتماعية من سقف الانتظارية، ومن معادلة الارتهان لمعطيات السياسة أو الاقتصاد، سواء تعلق الأمر بانتظارية سياسوية ظلت لعقود تؤجل الشأن الاجتماعي إلى حين توفر ما يكفي من الاصلاحات السياسية، أو بانتظارية اقتصادية عملت بقوة على تأجيل الشأن الاجتماعي إلى حين توفر ما يكفي من ثمار النمو الاقتصادي. في المقابل فإن البديل الحالي الذي يطبع ورش الدولة الاجتماعية، كتجاوز لسقف الانتظارية المُعطلة، هو جوهرها الإرادوي الواضح.

3. من الجيد الانتباه إلى أن المهم في مشروع كبير ومُهيكل مثل ورش الدولة الاجتماعية، هو ليس فقط حجم الاعتمادات المالية المخصصة له، ولكن كذلك وبالأساس العناصر التالية :

أولاً: التغيير الهيكلي في ترتيب الأولويات الكبرى، وتكريس المسألة الاجتماعية داخل دائرة الانشغالات المركزية لأجندة الفاعلين على المستويات الوطنية والترابية.

ثانياً: حجم تحولات هندسة السياسات العمومية المتفرعة عن السياسة العامة المُتضمنة للاتجاهات العامة للدولة الاجتماعية، في تقاطعاتها القطاعية والأفقية والترابية، وفي نموذجها المؤسسي المبتكر؛

ثالثاً: الطابع الإرادي للفعل العمومي الحامل لامتدادات هذا الورش الكبير، وما يرتبط به من التزام ملكي سامي بكل الحمولة الدستورية والسياسية والتاريخية للمؤسسة الملكية كقائدة فعلية للمشروع المجتمعي لبلادنا.

رابعا: لابد من التأكيد على أن حجم هذا المشروع وامتداداته داخل ميكانيزمات الفعل العمومي وتمفصلات السياسات والبرامج العمومية، وآثاره على تدخلات القطاعات الحكومية والمؤسسات والإدارات ذات الصلة بمُخرجاته، تجعلنا أمام مشروعٍ مهيكل يحتاج إلى تملكٍ مجتمعي واسعٍ وإلى حالة إصلاحية مدعمةٍ، وقبل ذلك إلى الكثير من بيداغوجيا التواصل المُوَاكب، داخل بيئة مؤسسية مُنصتة للشركاء الاجتماعيين والفاعلين الاقتصاديين.

ذلك أن المغرب عبر أفق الدولة الاجتماعية، يُعيد عملياً، ترتيب عقد اجتماعي وسياسي جديد، ويؤسس لديمقراطية بمدخل المواطنة الاجتماعية، قائمة على تفاعل تاريخي للدولة ومؤسساتها وسياساتها مع دينامية الطلب الاجتماعي المتواصل.

وإذا كان لابد من التفكير في الدولة الاجتماعية كأفق للتحليل والتأمل، بمقاربات علمية وعدّة منهجية ومسافة موضوعية، فإنه من الممكن كذلك أن نُلاحظ في الاتجاه الآخر حاجة مشروع مهيكل مثل الدولة الاجتماعية إلى ما تُتيحه الجامعة من خِبرات مسندة للأداء العمومي، ومن أدبيات مسهمة في دورة تقييم السياسات، ومن منظومة مؤشرات لقياس النجاعة و الفعلية، ومن فضاءات للحوار العمومي و لتقاسم الحجج و لتأطير الرأي العام ومده بمرجعيات النظر إلى الموضوع، بطريقة تمكن الفاعلين السياسيين والمدنيين والنقابيين من تجاوز لحظة إنتاج المواقف السريعة المبنية على الانطباعات العابرة أو التموقعات الظرفية أو الأفكار المسبقة.

وضمن هذا الأفق تبرز ضرورة مواصلة التعبئة الوطنية لمرافقة الجهود العمومية المتكاثفة حول الرؤية الملكية للدولة الاجتماعية، نحو تَمَلكٍ مجتمعي لهذه الروح الإصلاحية، ومن أجل التعامل مع هذا المشروع الكبير وَالْمُهَيْكل كلحظة وطنية يجب أن تسمو على التجاذبات والجدالات، خدمة لرهانات الإصلاح الاجتماعي وغاياته، وتعزيزاً لفعالية الاحتضان الشعبي لديناميته.

إن التأسيس لهذا الأفق الجديد، بما يعنيه من إعادة بناء معقد لمنظومة الحماية والإدماج ذات بعد فوق قطاعي، قادرة على صياغة جيل جديد من البرامج وحزمة مبتكرة من السياسات، يبقى بحاجة ماسة إلى مواكبة دقيقة لآليات التتبع وقياس الأداء، قائمة على ثقافة تقييم الفعل العمومي وآثار الاجتماعية.

ومن هنا تبرز الحاجة الماسة لإطار مؤسساتي أفقي للتتبع والتقييم، يهتم بعيدا عن المقاربات القطاعية، بقراءة نتائج فعلية البرامج العمومية في ضوء مؤشرات النجاعة التي أكد عليها النموذج التنموي الجديد.

في هذا الإطار، يؤسس المرصد الوطني للتنمية البشرية، من خلال مهامه ذات الصلة بتتبع وتقييم السياسات المتعلقة بالتنمية البشرية، لتجربة جديدة على مستوى المقاربات التي يشتغل على تطويرها في إطار خطة عمله، والتي تتأسس على ثلاثة توجهات مركزية: 

  1. القياس المتعدد الأبعاد لنجاعة السياسات الاجتماعية في علاقتها مع الأفق الاستراتيجي للنموذج التنموي الجديد؛
  2. تتبع مسارات تثبيت وتنفيذ البرامج الإصلاحية الكبرى التي تشتغل عليها الحكومة في إطار الرؤية الملكية للدولة الاجتماعية؛
  3. تطوير جيل جديد من مقاربات تقييم السياسات العمومية الاجتماعية، والتي تركز الاهتمام على بعدين يتناسبان والأطروحة الدستورية حول الديمقراطية التشاركية والمواطنة في تكاملها العضوي مع مبدإِ المرتفق المستعمل للخدمة العمومية، لا سيما فيما يتعلق بالبعد المتعلق بالرضا على جودة الخدمة العمومية، والبعد المتعلق بالأثر الاجتماعي للسياسات والبرامج العمومية. كما يشكل هذا العمل تمرينا لإرساء دعائم سياسة اجتماعية جديدة شفافة وعملية مبنية على الأدلة المزكاة بالمعطيات الواقعية (Données probantes) التي يتم تجميعها بطريقة علمية صارمة.

ذلك أن رهان المرصد خلال الأفق المتوسط يتجلى في إرساء أسس ثقافة السياسة العمومية الشفافة المبنية على النتائج ودفع القيمين عليها لبناء جسور الثقة في جدوى إحداث أنظمة مؤسساتية للتتبع والتقييم وفق رؤية تقوم على التعاون والتدبير المعقلن للعمل والموارد في أفق إرساء آلية مؤسساتية لدعم القرار العمومي.

وتهدف هذه الآلية إلى الاستجابة بشكل موضوعي واستباقي للتطلعات المتعلقة بتحليل وتتبع وتقييم البرامج ذات الصلة بالورش الملكي للدولة الاجتماعية، على نحو يمكن من اقتراح أطر تحليلية مبتكرة وتفاعلية، وقياس مدى تقدم الفعل العمومي وفق فترات زمنية مختلفة وبمقاربات متعددة، سعيا إلى تقديم حلول لمواجهة التحديات المستجدة المرتبطة بالأثر الاجتماعي.

ويهدف المرصد الوطني للتنمية البشرية في المحصلة إلى إنجاز تقييمات موضوعية وإنتاج بيانات دقيقة حول الأبعاد الرئيسية للتنمية البشرية في المملكة، لتجويد عملية اتخاذ القرار في مجال السياسات الاجتماعية، والمساهمة في ترسيخ نظام تدخل عمومي قوي وعادل وشفاف ومنفتح على المجتمع على مستوى الإدماج والتنمية الاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News