إجراءات عملية لتقليص الهوة بين المواطن والمؤسسات

سيتم تقديم هذه الإجراءات العملية في ثلاثة مداخل أساسية لمحاولة الإجابة عن الأسباب الرئيسية للأزمات السياسة المتكررة، والتي تم حصرها في ثلاثة أسباب وهي على الشكل التالي:
مساهمة التحولات الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي في الكشف عن وجود أزمة سياسية تعود إلى ضعف آليات الديمقراطية التمثيلية، وتراجع قدرة مؤسسات الوساطة من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني على التأطير والتعبئة، الشيء الذي أدى إلى اتساع الفجوة بين النخب السياسية والناخبين، حيث أصبح المواطنون يشعرون بأن ممثليهم لم يعودوا يعكسون مصالحهم الحقيقية، بل يخضعون لمنطق المصالح الحزبية أو الاقتصادية الضيقة؛
ضعف شرعية القرارات العمومية نتيجة تراجع ثقة المواطنين في المؤسسات التي تنتج وتنفذ السياسات العمومية، وتنبع هذه الأزمة من غياب المشاركة الفعلية للمواطنين في صنع القرار عن طريق سلك آليات التشاور والحوار المجتمعي، مما أدى إلى إحساس المواطن بأن القرارات تتخذ بطريقة فوقية لا تعبر عن تطلعاته ولا تراعي حاجاته، كما يساهم غياب الشفافية وضعف التواصل الحكومي في زيادة الغموض حول دوافع القرارات ومصالح الأطراف المستفيدة منها الأمر الذي يعمق الإحساس باللاعدالة والإقصاء.
ضعف حكامة تنفيذ السياسات العمومية التي تم اختزال دورة حياتها الطبيعية فقط في عملية اتخاذ القرار دون بنائه على تحليل عميق يقدم الأجوبة المناسبة للمشاكل العمومية، ومواكبتها عن طريق المتابعة والتقييم ضمانا لفعاليتها.
هذه المشاكل إلى جانب مشاكل أخرى متفرعة عنها، تؤدي بين الفينة والأخرى إلى بروز احتجاجات اجتماعية عامة أو فئوية في بعض الأحيان، لكنها تتقاطع على مستوى الفكرة المركزية التي تتغذى من ضعف مؤسسات التمثيل والوساطة، وتراجع حكامة التدبير العمومي وعدم تأسيسه على الحاجة الحقيقية منه، ووجود إحساس بالإقصاء والتهميش وضعف الإحساس بالانتماء.
سيتم الحواب في هذا المقال عن هذه المشاكل من خلال ثلاث مداخل أساسية، متكاملة فيما بينها وذلك على الشكل التالي:
أولا: دعم آليات الديمقراطية التمثيلية عبر آليات الديمقراطية الرقمية.
تعرف الديمقراطية التمثيلية في السنوات الأخيرة أزمة غير مسبوقة، رغم أهميتها في ضمان التداول السلمي على تدبير الشأن العام، حيث لم تعد كافية لإشراك المواطنين بالشكل المطلوب، بعد تزايد الهوة بينهم وبين مؤسساتهم التمثيلية، وارتفاع نسبة العزوف عن صناديق الاقتراع، هذا العزوف لا يعني اللامبالاة، بل يعكس وعيا بأن هذه المؤسسات فقدت القدرة على التعبير عن أولوياتهم، مما دفع المواطنين عبر العالم إلى الابتعاد عن المؤسسات، إذ لم يعد الناخب في زمن السرعة هذا قادرا على انتظار دورات انتخابية ليعبر عن رأيه، بل أصبح يطالب بالمشاركة المباشرة والسريعة والشفافة، لكن في المقابل، لازال صناع القرار يصرون على ضرورة اتباع القنوات التقليدية المتعارف عليها من أجل المشاركة والحوار، في الوقت الذي أصبح فيه المواطن يقظي ساعات طوال في الفضاء الرقمي، عرضة لمحتويات وأفكار تجوب العالم، تتجاوز الثقافات الوطنية، ولم تعد التنظيمات السياسية التقليدية قادرة على احتوائها، أو حتى مسايرة سرعتها.
ليس هناك شك في وجود وعي عند جميع الفاعلين بهذه المشكلة، ويمكن المجازفة بالقول بأنها كانت سببا مباشرا في دعم الديمقراطية التمثيلية عبر آليات الديمقراطية التشاركية، والمتمثلة في تأسيس بعض مؤسسات الحكامة وإدراج العرائض واللوائح وملتمسات التشريع وبعض لجان التشاور ضمن قنوات اتخاذ القرارات العمومية، كخطوة للانفتاح على المجتمع المدني.
على الرغم من ذلك، لازال يلاحظ أن هذه الإجراءات لم تؤدي الغاية منها، نظرا لفرض شروط لا تسمح بسهولة اللجوء إليها، أو اعتبارها غير مجدية سواء بالنسبة للمواطن الذي يرى أنه غير قادر على التأثير على القرار بواسطتها، وبالنسبة للمؤسسات التي تتشبث بأحقية اتخاذ القرار باعتبارها صاحبة الاختصاص والسلطة.
في هذا السياق، لم يعد ممكنا الاكتفاء بالديمقراطية التمثيلية وحدها قادرا على تقليص الهوة بين المواطنين والمؤسسات، رغم دعمها بآليات الديمقراطية التشاركية، خصوصا أمام ضعف المشاركة الانتخابية، وبطء الاستجابة للطلب على الخدمات العمومية وتحسينها، ورفض البيروقراطية التنظيمية والمؤسساتية، الأمر الذي يحتم على الفاعل العمومي التفكير في اللجوء إلى آليات الديمقراطية الرقمية، من أجل تجديد الثقة بين المواطن والمؤسسات، وإعادة الاعتبار لقيم المشاركة السياسية الفاعلة.
ويتجلى هذا كله في مرحلة سياسية لا أحد قادر أن ينكر مساهمة الفضاء الرقمي في خلق منصة سياسية موازية، تؤثر بشكل كبير على تشكيل المواقف، وتنظيم الحملات، والتعبئة للاحتجاجات، حيث كان هذا الفضاء المحرك الأساسي للتعبئة الشعبية خلال الربيع العربي، والدعوة إلى مقاطعة منتوجات بعض الشركات ببلادنا، كما كان سببا في نجاح حركات سياسية بارزة في أوروبا وكافة دول العالم.
وتماشيا مع هذه الموجة الجديدة، سعت بعض الدول إلى دعم ديمقراطيتها التمثيلية عن طريق آليات الديمقراطية الرقمية التي تمنح أدوات جديدة كالاستشارة الإلكترونية، التصويت عن بعد، الشفافية عبر البيانات المفتوحة، والتفاعل المباشر، ويمكن الإشارة هنا إلى بعض النماذج الدولية التي اعتمدت هذه الآليات الجديدة، كدولة “إستونيا” التي تسمح بالتصويت الالكتروني للناخبين مما عزز من نسبة المشاركة الانتخابية والتخفيض من تكاليف الانتخابات بها، كما أن دولة “سويسرا” بدأت تعتمد أنظمة رقمية للاستفتاءات الإلكترونية المحلية، مما جعل المشاركة فيها أوسع وأكثر شمولا، إلى جانب التجربة “البرازيلية” في اعتماد منصات الميزانية التشاركية الرقمية، التي مكنت المواطنين من اقتراح المشاريع المحلية والتصويت عليها إلكترونيا، الأمر الذي عزز ثقة الناس في البلديات، كما أن “كندا” بدأت تعتمد مبادرات رقمية تستهدف إشراك الشباب في قضايا البيئة والتنمية، عبر استشارات إلكترونية موسعة.
وبعد احتجاجات “جيل Z”، أصبحت آليات الديمقراطية الرقمية تقدم نفسها كحل ضروري وواقعي، من أجل إعادة ربط المواطن بعملية اتخاذ القرار، فأغلب الشباب اليوم وحتى المواطنين من مختلف الأعمار والشرائح يعيشون خلف الشاشات، يتفاعلون ويتواصلون ويكونون قناعات ومواقف ومفاهيم جديدة، فتجاهل هذا المتغير هو في حد ذاته إقصاء غير مرغوب لأغلبية المواطنين، وللحيلولة دون الوقوع في ذلك، يتطلب الأمر إدماج التكنولوجيا الرقمية في تدبير الشأن العام عبر:
رصد أولويات الرأي العام عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، والتحليل الرقمي للنقاشات والمواقف المجتمعية؛
إطلاق منصات رقمية للتشاور العمومي تتيح للمواطن إبداء رأيه في مشاريع القوانين والسياسات العمومية قبل اعتمادها؛
اعتماد آليات تقييم تشاركية رقمية تسمح للمواطن بمراقبة أداء المؤسسات وتتبع تنفيذ البرامج الحكومية.
وعليه، نعي جيدا أن هذا الحل يطرح صعوبات في التطبيق من قبيل ضعف الكفاءات الرقمية، وعدم وجود ضمانات قوية لتحصينه من الاختراق، ومن انتشار الأخبار الزائفة والحملات المضللة، ووجود شركات عالمية تتحكم في هذه الخوارزميات، وبرغم هذه الصعوبات فإنه يظل حلا أقل تكلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حيث سيمكن بلادنا من بناء شرعية سياسية أوسع لقرارها العمومي.
ثانيا: توسيع شرعية القرار العمومي
يرتكز هذا المدخل على أنه لم يعد ممكنا اليوم التعامل مع تدبير الشأن العام كملكية خاصة أو فضاءا مغلقا على دائرة ضيقة من المصالح، فالمطلوب اليوم هو تشكيل قناعة عامة تتمثل في أن الغاية من تدبير الشأن العام هي خدمة المصلحة العامة، لذلك يجب الانتقال من منطق احتكار القرار العمومي إلى منطق أكثر تشاركية، ومن مؤسسات مغلقة إلى مؤسسات مفتوحة على الرقمنة والتفاعل المباشر مع المواطنين، ومن هذا المنطلق يحب التأكيد على أن الديمقراطية ليست مجرد نصوص قانونية أو آليات انتخابية، بل تتجاوز ذلك إلى مستوى ترسيخ ثقافة يومية تقوم على الحوار والتعددية والتقييم المشترك للسياسات العمومية.
وبناء عليه فإن تدبير الشأن العام لا يكتسب شرعيته إلا من خلال إشراك أكبر عدد من المواطنين في صياغة وتوجيه ومراقبة القرار العمومي، بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والاجتماعية والعمرية، باعتبارهم قوة اقتراحية ليس كمجرد متفرج على مسار اتخاذ القرار، بل يجب أن يشكل أساس العملية الديمقراطية التي أصبحت متجاوزة لصناديق الاقتراع إلى مستوى القدرة على إشراك أوسع قاعدة من المواطنين في عملية اتخاذ القرار ورسم أهداف السياسات العمومية، ومن دون خلق آليات تتماشى مع هذا التحول وتجيب عن المشاكل الأساسية المطروحة سنظل بكل تأكيد ندور في حلقة مفرغة من الأزمات وفقدان الثقة.
ثالثا: ضرورة تقوية حكامة السياسات العمومية ببلادنا
تشكو بلادنا اليوم من نجاعة السياسات العمومية وتقديم الأجوبة التي تتلاءم مع مستوى وتنوع الطلب العمومي، ويعود ذلك إلى ضعف مستوى تحليل السياسات العمومية كعملية من شأنها أن تمكن من فهم المشاكل العمومية جيدا وحصرها وتنظيمها ضمن الأولويات، ووضع قرارات عمومية تمكن من تقديم الأجوبة المناسبة عليها، كما أن عملية اتخاذ القرار لا تمتد إلى مستوى متابعة تنفيذ هذه السياسات، باعتبار أن هذه الحلقة قد تمكنها من تتبع مراحل التنفيذ لاكتشاف نقاط القوة والضعف في الوقت المناسب، والتمكن من تصحيحها ضمن مسار أمثل لتدبير الموارد العمومية.
كما أن عملية التتبع ستساهم في تعزيز الشفافية والمساءلة داخل الإدارة العمومية من خلال قياس النتائج الفعلية مقارنة بالأهداف المرسومة، وهو ما سيعزز ثقة المواطن في العمل الحكومي، ويرسخ ثقافة الأداء القائم على النتائج بدل القرارات الارتجالية.
بالإضافة إلى ذلك، تعد عملية التقييم أيضا مدخلا أساسيا للاستفادة من الماضي وتطوير السياسات العمومية على أسس عملية وتجريبية، وبفضل تحليل النجاحات والإخفاقات السابقة، تكتسب الدولة ذاكرة مؤسساتية مرتبطة بدورة حياة السياسات العمومية، تساعدها على تفادي الأخطاء المتكررة، وتبني سياسات أكثر واقعية وفعالية، وهذه الاستفادة من التجربة الماضية، قادرة على أن تحول الإدارة العمومية إلى جهاز متطور ومرن، يتنافس على الابتكار ويمكن من الاستجابة السريعة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية، بما يضمن استمرارية الإصلاح وتحقيق التنمية المستدامة.
كخلاصة القول، إن هذه الأزمات السياسية المتكررة جعلت بلادنا تتوفر على مناعة سياسية قوية، في مواجهة الأزمات بمسؤولية وبطريقة تختلف عن باقي الدول المحيطة بنا، حيث يتمكن كل من الدولة والمجتمع من التفاعل بالشكل المطلوب للخروج بأجوبة ضرورية لتجاوز الأزمة، ومواجهة المستقبل المشترك، في أفق تحقيق الدولة الاجتماعية الديمقراطية القوية.
حاصل على الدكتوراه في تقييم السياسات العمومية-