الشباب والاحتجاجات في المغرب: من انتفاضات الأمس إلى حركة “Z” اليوم

لم تكن المظاهرات الأخيرة التي دعت إليها ما يُعرف بـ”حركة Z”، والتي رفعت شعارات مرتبطة بقطاعي الصحة والتعليم، حدثاً معزولاً في تاريخ المغرب السياسي والاجتماعي. فمنذ الاستقلال ظل الشباب في قلب موجات الغضب التي ميزت محطات مفصلية، بداية من انتفاضة الدار البيضاء سنة 1965، مروراً بأحداث 1981 و1984، وصولاً إلى حركة 20 فبراير في 2011. في كل هذه المحطات، كان الشباب هو الفاعل المركزي، وكانت مطالبه تتجاوز بكثير ما رفعته حركة “Z” اليوم. لكن الفارق الجوهري بين الماضي والحاضر يكمن في طبيعة التأطير السياسي: ففي زمن اليسار والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كان الشباب يجد في هذه التنظيمات قنوات تؤطر غضبه وتمنحه لغة سياسية واضحة، بينما تتحرك احتجاجات اليوم في فراغ حزبي وتنظيمي ملحوظ.
ولعل ظهور حركة “Z” أماط اللثام عن هذا التحول العميق، فهي رفعت مطالب اجتماعية أساسية وواقعية، لكنها لم تستند إلى خلفية فكرية أو مقاربة سياسية متكاملة، بل اكتفت بتوجيه أصابع الاتهام إلى اختلالات الصحة والتعليم التي تراكمت على سنوات. والواقع أن هذين القطاعين لا يعانيان من غياب الاستثمارات أو ضعف الموارد، إذ تشكل ميزانيتهما معاً نسبة معتبرة من الناتج الداخلي الإجمالي: فالصحة تستفيد سنوياً من اعتمادات تناهز نسبة 5.6 في المئة من إجمالي ميزانية الدولة حسب معطيات البنك الدولي، بينما خصصت للتعليم ما يزيد عن 80.62 مليار درهم ، أي حوالي 15 في المئة من الميزانية العامة للدولة. غير أن حجم الإنفاق هذا لا يقابله أثر ملموس في حياة المواطنين والمواطنات، وهو ما يؤكد أن المشكل لا يكمن في الموارد بقدر ما يكمن في المقاربات المعتمدة وآليات التدبير والحكامة التي لم تثبت فعاليتها.
غير أن الاحتجاجات الأخيرة كشفت أيضاً ضعف الأحزاب السياسية والنقابات التي لم تعد قادرة على لعب دور الوسيط بين الشباب والدولة. بالنسبة لجيل كامل، أصبحت السياسة مرادفة للفراغ واللاجدوى، ولم تعد التنظيمات الحزبية قادرة على التعبير عن همومه أو احتضان مطالبه. هذا الغياب جعل الشارع مفتوحاً أمام أشكال من التعبير غير المؤطر، وأفسح المجال أمام المؤثرين الرقميين الذين تحولوا إلى قادة رأي بديلين، بحيث يملك هؤلاء قدرة على توجيه المزاج العام، لكنهم في الغالب يقدمون خطاباً مشحوناً بالتبخيس والتحريض أكثر من كونه خطاباً مسؤولاً يقدم حلولاً واقعية.
في المقابل، غابت الدولة عن الساحة الرقمية كما غابت عن الإعلام العمومي بحيث لم تستثمر بعد بالقدر الكافي في رواية رسمية صادقة وقريبة من الناس، تشرح الإنجازات كما تعترف بالاختلالات، وتفتح المجال لحوار عمومي شفاف. لينتج عن هذا الغياب خطاب رقمي شعبوي أصبح أكثر تأثيراً من خطاب المؤسسات، وترك الشباب في مواجهة رسائل محبطة ومعلومات مشوهة و لا تستند إلى مراجع موثوقة عن واقع بلادهم.
من هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة جديدة تتجاوز منطق الرد الأمني وتنتقل إلى الفعل الاستباقي. أولاً، ينبغي تعزيز صورة الدولة ومجهوداتها عبر الإعلام العمومي، ليس بخطاب دعائي تقليدي، بل عبر إنتاج محتوى جاذب ودامج يشرح السياسات العمومية بلغة بسيطة، ويستضيف الشباب في مواجهة مباشرة مع المسؤولين. وثانياً، يجب أن تكون الدولة حاضرة بقوة في المنصات الرقمية من خلال مبادرات تفاعلية يقودها شباب وشابات مسؤولون، قادرة على الرد على المغالطات وتقديم المعلومة الصحيحة في شكل مبسط وقريب.
ولا يمكن أن تنجح أي مقاربة إصلاحية دون استثمار طويل المدى في التربية المدنية عبر إدماج وحدات إلزامية في المناهج الدراسية حول المواطنة، الحقوق، الواجبات، والحوار الديمقراطي الذي من شأنه أن يكوّن جيلاً جديداً أكثر وعياً وأقل عرضة للخطاب العدمي. إلى جانب ذلك، فإن إعادة إحياء برنامج “الجامعات الشعبية” سيوفر فضاءات للتكوين والنقاش الحر خارج الإطار الحزبي، ويسمح للشباب باستعادة ثقتهم في الفضاء العمومي كمجال للتعبير والنقاش.
كما أن تفعيل الهيئات الاستشارية للشباب و المساواة و مقاربة النوع الاجتماعي على مستوى الجماعات الترابية، والتي نص عليها الدستور لكنها بقيت في أغلبها حبراً على ورق، سيمنح الشباب قنوات مؤسسية حقيقية للتأثير في القرار المحلي. ولا يقل أهمية عن ذلك مأسسة الحوار عبر إحداث منتديات وطنية وجهوية دورية تجمع الشباب مع صناع القرار، لأن التواصل المباشر يختصر المسافة ويقلل من احتمالات الانفجار في الشارع.
إن نجاح هذه الخطوات يظل رهيناً بجرأة في الخطاب الرسمي إلى حد أن يصبح المطلوب ليس إنكار الأزمات أو الاكتفاء بتمجيد الإنجازات، بل اعتماد لغة سياسية صريحة تعترف بالمكاسب كما تعترف بالنقائص. وعليه فغن المقاربة المطلوبة تقضي من الحكومة أن تكون صادقة في خطابها مع المواطن لأن الصدق هو السبيل الأنجع لاستعادة الثقة، وهو ما سيفتح المجال أمام خطاب مسؤول يقطع الطريق على الشعبوية الرقمية.
في المحصلة، حركة “Z” ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التحركات التي يقودها الشباب منذ عقود. لكن المختلف اليوم هو أن هذا الجيل، يعيش في فضاء سياسي فارغ وإعلام رسمي عاجز، بينما تتكفل المنصات الرقمية بتأطيره. وبذلك يتضح أن الخطر الأكبر لا يكمن في حجم المطالب بل في الفراغ المؤسسي والتواصلي الذي يجعل الشباب بلا أفق. لذلك، فإن إعادة بناء الثقة عبر الحوار، التربية المدنية، الإعلام العمومي، والفضاءات المؤسسية ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة ملحة لضمان استقرار البلاد ومستقبلها.





