رأي | مجتمع

سجناء الأنترنيت

سجناء الأنترنيت

إنهم سجناء من نوع خاص لم يعرف التاريخ مثيلا لهم، لكونهم يؤدون مبالغ مالية مقابل البقاء في البيت واستنفاذ العقوبة التي اختاروها هم بأنفسهم. أي نعم هم الذين يختارون العقوبة أي مكان قضاء العقوبة وكذا مدتها وطريقة تصريفها. ولهذا السبب هم سجناء جدد يختلفون جذريا عن السجناء العاديين الذين فرضت عليهم العقوبة وكذا المؤسسة السجنية التي سيقضونها فيها، ولا يؤدون أي شيء بل الدولة هي التي تدفع ثمن إقامتهم السجنية. السجناء الجدد ملتزمون جدا بأداء عقوبتهم في البيت، مع احترامهم للشروط المقيدة لحريتهم وحرصهم الشديد على عدم خرقها أو التلاعب بها. إنهم سجناء جدد فعلا لأنهم هم الذين ينهون وضعية السجن متى أرادوا، إذ بإمكانهم وضع حد لأسرهم حين يشاؤون ويقررون ذلك دون تدخل أي طرف خارجي أو سلطة إدارية، لسبب بسيط هو أن عقوبة التي يقضونها لم تفرض عليهم بحكم قضائي أو بقرار سلطوي. ونهايتها لا تتوقف على أي قرار إداري، ذلك أن المعنيون هم الذين يحددون تاريخ انقضاء العقوبة وفق إرادتهم الخاصة. إذن، من هم هؤلاء السجناء الجدد؟
إنهم مستهلكو الأنترنيت أو أولئك المدمنون على الشبكة العنكبوتية الذين يفرضون على أنفسهم المكوث في بيوتهم التي لا يغادرونها إلا في الحالات الاستعجالية أو لأسباب قاهرة. بل إنهم لا يغادرون كراسيهم إلا لقضاء الحاجات البيولوجية الملحة كالذهاب إلى المرحاض أو النوم. أما الأكل فإنهم يفضلون تناوله أمام شاشاتهم وأجهزتهم الإلكترونية دون الحاجة إلى التنقل نحو صالة الأكل ودون الحاجة إلى تقاسم الحديث مع أفراد العائلة. إنهم معتكفون وفق دوام كامل à plein temps أمام شاشاتهم الكبيرة والصغيرة. فهم في جنات النعيم حيث اللهو و اللعب والمتعة دون أي رقابة من أي كان. وهذا ما يميزهم عن السجناء العاديين الذين يخضعون لمراقبة دائمة من طرف حراس السجن. لكن الفارق الكبير يتمثل في الأداء. فإذا كان السجناء العاديون لا يؤدون أي مبلغ مالي أثناء فترة سجنهم، فإن السجناء الجدد يؤدون ثمنا مقابل أسرهم، إذ عليهم الاشتراك في الخدمة والالتزام بتأدية الفاتورة في آخر الشهر، وكذا مبلغ الخدمات الإضافية. في حين أن السجناء العاديون تتكفل بهم الدولة حيث تؤدي مبلغ إقامتهم السجنية طيلة مدة العقوبة وتتكفل بكل مصاريف التغذية والتطبيب والتكوين. أما في حالتنا هذه فإن الناس هم الذين يدفعون للدولة مقابل أن يمكثوا في بيوتهم ويلتزموا بالقيود التي اختاروها بمحض إرادتهم.
مفارقة عجيبة هي، لا أحد كان ينتظر حدوثها ولم تخطر على بال حتى أولئك السابحون في الخيال الجامح. لكن بعض المفكرين اللامعين في القرن العشرين تنبأوا بشيء من هذا القبيل، خصوصا لما أعلنت التقنية غزوتها المجيدة التي ما زالت مستمرة إلى الآن. ومن بين هؤلاء المفكر الألماني ” أندريس غونتر” الذي وصف اولئك السجناء الجدد ب”العمال المداومون في البيوت” فهم يعملون بشكل دائم من بيوتهم، لكنهم ليسوا كباقي العمال لكونهم بستهلكون ولا ينتجون. والأدهى من ذلك أنهم لا يتقاضون أجرا عن شغلهم بل هم الذين يدفعون المال لكي يستهلكوا ما يستهلكونه. لكن غونتر كان يتحدث إذاك على الراديو والتلفزة، سنوات قبل ظهور الأنترنيت أي بالضبط الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. معتبرا أن هذين الاختراعين من أخطر الوسائل التي روجتها الليبيرالية المعاصرة واستفاد منها النظام الرأسمالي بشكل لافت. والفائدة الكبرى هي خلق شعب من المستهلكين القابعين في بيوتهم والذين يسميهم “جماهير الاستهلاك” التي تؤدي خدمة هائلة للنظام الليبيرالي الذي استثمر كل إمكانياته بغاية ترويج هذه السلع على المدى الواسع وبالتالي التحكم في عقول وعواطف الناس، بل الأدهى هو تغيير سلوكهم وعلاقاتهم ونظرتهم إلى العالم وإلى أنفسهم بشكل جذري. في هكذا مجتمع استهلاكي كل شيء يأتي إليك وما عليك إلا تشغيل الآلات لكي تغوص في صور وموسيقى وعلامات وإشهارات تدعوك إلى المزيد من الاستهلاك. هي في الحقيقة الأشياء لا تأتي إليك بل تفرض عليك ما دمت لم تخترها ولم تحدد ما هي المنتوجات التي يمكنك استهلاكها. إنها هي التي تقتحم عليك خلوتك وحميميتك وتجبرك بطريقة غير مباشرة على الإقبال عليها واستهلاكها فالراديو والتلفزة ليست في حاجة لإذنك، ولا تنتظر موافقتك. فهي تأتي بدون استئذان، والأدهى من ذلك أنها تمرر إليك البرامج التي تريد وتقذفك بالأخبار والمعلومات التي تريد وتشحن ذهنك بالأفكار والمشاعر التي تريد. أما أنت فلست إلا متلق سالب. إنها تحولك إلى أداة تستهلك دون أن تنتج. وفي عالم الفرجة والاستهلاك ليس مطلوبا منك أن تفكر، والنتيجة هي موت ملكة النقد والسؤال لديك، فالراديو والتلفزة والأنترنيت يفكرون في مكانك ويقدمون لك كل الأجوبة السهلة والجاهزة، وما عليك أنت إلا نسخها وتكرارها بشكل ببغائي. يوهم المجتمع الاستهلاكي الناس، عبر وسائل التواصل، بأنهم أحرارا ويمتلكون زمام المبادرة بأيديهم وقادرون على الاختيار والتحكم في مصيرهم ما داموا يملكون المال وأدوات التحكم عن بعد. لكن هذا الوهم سرعان ما يتبخر حين ندرك أن الأفراد ، في المجتمع الاستهلاكي تحولوا إلى آلات طيعة في خدمة أسيادهم الذين يتحكمون في توجيه أفعالهم، وإلى عبيد جدد استلبتهم التقنية وعبثت بحريتهم التي حولتها إلى حرية سطحية أو” حرية مزيفة”، إنها حرية مفترى عليها. فأن تشعل التلفاز أو الحاسوب وأن تتابع برنامجا ما أو تنخرط في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي لا يعني البتة أنك حر وسيد نفسك. فالحرية لا تختزل في القبض على “أداة التحكم عن بعد”، بل هي فكرة وقضية وموقف. مثل هذا الإنسان هو الذي أطلق عليه أندريس غونتر” الإنسان المثالي” الذي يعتقد خطأ أن العالم يأتي إليه وأنه هو الذي يحدد معنى الأشياء من خلال تمثلاته وأفكاره الخاصة. فالإنسان المثالي ليس إلا ضحية لاعتداده بنفسه ولثقته العمياء في تصوراته الذاتية التي توهمه بأن العالم كله ملك يديه، هو السيد والأشياء له، يفعل بها ما يشاء. متغافلا عن الحقيقة المرة التي رسختها الليبرالية المعاصرة عبر ترسانتها الإعلامية والتكنولوجية، ألا وهي أنه مجرد أداة في يد الأشياء، بل أكثر من ذلك إنه عبد في قبضتها. فهو لا يعدو أن يكون ضحية للأشياء التي صنعها هو : المال ، الأنترنيت، الألعاب….إلخ. إنه الاستلاب بعينه. الإنسان/الأداة هي ذي الحصيلة التي انتهى إليها المجتمع الاستهلاكي الذي منح قيمة كبيرة للأشياء وقلص قيمة الإنسان. وهذه الأخيرة تقاس بمدى خضوعه للعبة العرض والطلب ومدى مجاراته لنزواته ومدى إقباله على الاستهلاك. فقيمة الإنسان اليوم صارت مرهونة بعدد الأشياء التي يملكها. كلما ملكت أكثر كلما كانت قيمتك أكبر: أنت تملك سيارات فخمة ومنزلا واسعا وأموالا في البنك أو البورصة وترتدي ملابس العلامات التجارية الباهضة الثمن، إذن فأنت شخص مهم…إلخ. هكذا توارت قيمة الإنسان خلف قيمة الأشياء. لا يهم من تكون بل ما لك أي ما تملك.
يتضح جليا أن الفرد المستهلك ليس هو الذي يذهب نحو العالم، بل العالم هو الذي يأتي إليه . فهو يظل أسير مقعده أو أريكته في انتظار قدوم الوقائع والأحداث إليه وما عليه هو إلا التقاطها والتعاطي معها بمنطق الثقة العمياء: يصدق كل ما يسمعه وما يراه دون إعمال لملكة الشك أو النقد. لم تعد المغامرة أو الخبرة هي التي تحدد علاقتنا بالعالم، إذ لم يعد مطلوبا من الأفراد القيام بأي مجهود لاكتشاف الأشياء ما دامت البرامج المتنوعة في وسائل الإعلام تنوب عنه. والنتيجة هي أن الإنسان صار يتحول تدريجيا إلى كائن خامل لا يبذل أي مجهود يذكر، ما عدا الاشتراك في الخدمة وأداء المستحقات و الاعتناء بمظهره الخارجي، وحتى هذا الأمر هناك من يتكفل به مقابل أجر.
لمن أراد التوسع في تحليل هذه الظاهرة عليه بقراءة كتاب ” انديرس غونتر”:
Anders Gunther : «  L’obsolescence d

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News