رأي

الحب أسمى من الحكم والحب تكتيك للحكم

الحب أسمى من الحكم والحب تكتيك للحكم

“شخصيا، لا أخجل من البوح بذلك؛ أنا رجل يحب زوجته حبا جما”، يعترف بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الاسبانية وزعيم الحزب الاشتراكي، في رسالة فجائية وعاطفية، وجهها يوم أمس الاربعاء الى الشعب الاسباني وتقدمي العالم، للتنديد بالهجوم والتشهير به من خلال استعمال الحياة الخاصة، بالضبط، الإساءة وملاحقة زوجته، بيغونيا غوميس، قضائيا.

لم يتوقف “الوسيم” بيدرو، كما يحلو للبعض وصفه، عند الاعتراف بسيادة الحب، بل قرر “التوقف والتفكير” للحسم في قرار التنحي أو البقاء في الحكم. الأمر سيكون أقرب إلى التنحي منه إلى الاستقالة، لأن القرار يأتي في سياق يخدم بيدرو سانتشيز.

بعد النتائج الإيجابية المحققة في الانتخابات الجهوية الأحد المنصرم ببلاد الباسك وفي ظل التموقع الجيد للحزب الاشتراكي في استطلاعات الرأي بخصوص الانتخابات الجهوية بكتالونيا، يوم 12 ماي المقبل، كان الجميع يتوقع مواصلة سانشيز للمشوار والاستعداد للانتخابات التشريعية الأوروبية في يونيو المقبل.

لكن “الرسالة القنبلة” حبست الانفاس وجعلت الجميع ينتظر والانظار متجهة الى الندوة الصحافية التي سيعقدها بيدرو يوم الاثنين القادم للنطق بالحكم. القرار دخل المداولة الاسرية والحزبية يوم أمس. خمسة أيام للتفكير، والقرار سيكون حاسما.

في حالة نفذ سانشيز التهديد، ستدخل إسبانيا المجهول من جديد، وسيكون لذلك تداعيات على السياسة الخارجية لإسبانيا. والمغرب معني بشكل كبير بالقرار المقبل. فالمغرب يعتبر بلدا حساسا ومهما بالنسبة لأسبانيا، والعكس صحيح ولو بدرجة أقل. بمعنى المغرب يؤثر في اسبانيا اكثر مما تؤثر فيه هذه الاخيرة.

قرأت الرسالة أكثر من مرة. رسالة غير عادية شكلا ومضمونا وسياقا وزمنيا وفي الإيقاع. رسالة تجمع بين الانسجام والتناقض، بين القوة والعجز، بين الدهاء والهوان. مع ذلك خلصت إلى أن رسالة بيدرو Pedro هي عبارة عن حجرة Piedra يراد منها اصطياد عصفورين برمية واحدة. اسم بيدرو في الاسبانية يحمل شيء من الصخرة، اي صلابة الصخور الصماء.

الرجل الصلب والجامد عاطفياً فجأت تحول الى عاشق ولهان ويبوح بذلك في رسالة للعموم والعالم. بعد 18 سنة من الزواج، رزق فيها ببنتين، يهب سانشيز زوجته أكبر هدية: الاعتراف بالحب والاستعداد للتضحية بالحكم والتنحي من أجل عيون وسلامة بيغونيا غوميس. في الكواليس يقال إن بيغونيا هي نقطة ضعف الرئيس. لا يستطيع أن يراها تتعذب بسببه. سانشيز يشعر أنه السبب الرئيس في كل ما تتعرض له زوجته. كما يرى أنه صنيعة زوجته وأنها لعبت دروا كبيرا في نجاحه سياسيا، بل كانت السند الوحيد له عندما طرده قومه سنة 2016 من قيادة الحزب، قبل أن ينبعث من رماده على أكتاف القواعد، ويعيد الحزب للحكم منذ 2018.

هذا كله كلام جميل في الحب والوفاء والفضل والاخلاق، لكن السياسة نقيض ذلك. أن يكون سانشيز تعب من الحكم ويبحث عن خروج كبير، فرضية ممكنة، وفيها شيء من الدهاء المعهود في الرجل. مع ذلك، لا يجب أن نهمل فرضية “الحب تكتيك للحكم”.

دهاء وتكتيك سياسي

يمكن أن يستعمل سانشيز الرسالة كذلك للبقاء في الحكم. الرجل وجه أصابع الاتهام الى اليمين PP واليمين المتطرف VOX. لم يتوقف سانشيز عند هذا الحد، بل ذكر بالاسم كل من البيرتو نونييث فايخو، زعيم الحزب الشعبي والمعارضة، وسانتياغو اباسكال، زعيم فوكس. رسالة سانشيز أحرجت كذلك القضاء الذي كان قرر قبل أيام فتح تحقيق مع زوجته بناء على شكاية من جمعية “الأيادي النظيفة”، وهي منظمة متطرفة معروفة بقربها من اليمين، كما أن كل دفعاتها مبنية على أخبار منشورة في صحف يمينية، وهي الأخبار التي وصفها سانشيز بالزائفة. قاضي بمدريد قرر التحقيق مع زوجة سانشيز بدون طلب من النيابة العامة، وهذا يخوله له القانون لكنه غير معتاد، والنيابة العامة طلبت اليوم الخميس حفظ القضية.

مسار بيدرو سانشيز و”الأرواح السبعة” وعقليته كلها أمور تجعل رسالته أقرب إلى المناورة السياسية لكسب المزيد من التعاطف الشعبي والاشتراكي والتقدمي والمزيد من الانسجام داخل الأغلبية الحكومية، وكذلك تعرية اليمين واليمين المتطرف قبل الانتخابات الجهوية في كتالونيا والانتخابات الأوروبية.

فالرجل الذي كتب “دفتر المقاومة”، وجعل المرونة والصمود والصبر شعار له ولنظرته للسياسة لا يمكن أن يتنازل ويستسلم ويتنحى ويخرج بهذه الطريقة. من كتب “اليابسة” لا يمكن أن ينهار بسهولة أمام زحف المد الشعبوي اليميني. الصخور هي آخر ما يتهاوى.

في انتظار قرار يوم الاثنين المقبل، يجب أن نعود الى مسار سانشيز لمحاولة فهم الرسالة الاخيرة والبناء عل المسار لاستشراف تداعيات “التنحي/ الاستقالة” أو الاستمرارية على العلاقات المغربية الإسبانية.

في 2014 جلس سانتشيز إلى مائدة الكبار في الحزب الاشتراكي، وترأس الحزب خلفا للراحل ألفريدو بيريز روبالكا، وزير الداخلية سابقا. نال ثقة الحزب للترشح لرئاسة الحكومة في انتخابات 2016، لكن كارثية النتائج (84 مقعد مقابل 137 مقعد للحرب الشعبي) وضعته في مرمى الخصوم الداخليين. اقصد بارونات الحزب. في نفس السنة أجبر على الاستقالة من الامانة العامة بعدما رفض تسهيل تجديد الثقة في راخوي رئيسا للحكومة للمرة الثانية.

غادر ولم يغادر. قرر العودة مسنودا بالحب الزوجي وقواعد الحزب الشبابية التي كانت تعبت من سطوة وهيمنة عقلية أصحاب فيليبي غونزاليث. كانت تبحث عن نقطة أمل، عن طائر فينيقي يحملها الى قصر المونكلوا، وبعثت من رماد الصخور صخرا (بيدرو).

طاف بيدرو إسبانيا على متن سيارة بيجو لأقناع قواعد الحزب بمشروعه. في يونيو 2017 عاد إلى رئاسة الأمانة العامة. عودة الكبار. وفي يونيو 2018، بلغ الحكم بعد أن أسقط راخوي بملتمس رقابة. اقنع تشكيلا هو مواطنون الذي كان أقرب حينها للحزب الشعبي. هناك بدأت اللعبة. وهي لعبة لا أعتقد أنها ستنتهي.

في 2019 قرر المغامرة ودعا إلى الانتخابات. اقترعان في سنة، أبريل ودجنبر، خرج منهما سالما، وشكل في يناير 2020 أول تحالف حكومي منذ ثلاثينات القرن الماضي.

خرج كذلك سالما من أزمة الوباء بين 2020 و2022. وخرج ايضا سالما من أكبر أزمة دبلوماسية ( مع المغرب) عرفتها السياسة الخارجية الإسبانية منذ يوليوز 2002، اقصد أزمة جزيرة ليلى. بعد سنة من التجافي، قرر سانتشيز التفكير بعقله وبواقعية وبراغماتية من خلال دعم مقترح الحكم الذاتي في مارس وأبريل 2022. دبر كذلك تداعيات الحرب بين الغرب وروسيا في أوكرانيا. دبر تداعيات الاعتداء الصهيوني على الفلسطينين، وانحاز الى الفلسطينيين، وهو ما جر (الراء بالشدة) عليه غضب الاحتلال الاسرائيلي. كما دبر إلى حدود الساعة تداعيات قرار العفو الشامل على المتورطين من قريب أو بعيد في el procés independista catalán أو مسلسل الاستقلال في كتالونيا. نجح في تجاوز تحد انتخابات بلاد الباسك بسلام الاحد الماضي.

وعكس كل التوقعات، حل الحزب الاشتراكي ثانيا في الانتخابات التشريعية في يوليوز 2023. نصب سانتسيز رئيسا للحكومة ب179 صوت مقابل 171 صوت معارض.

تمكن سانتشيز من استمالة الأغلبية المطلقة (أكثر من 176)، وفي الجولة الأولى، اي بدون الحاجة إلى إعادة التصويت. ويبقى الشيء المهم هو الحصول على 179 صوت نيابي في سياق اسباني سياسي يغلب عليه التقاطب والتنابز والتراشق والتحريض والتعصب. وهناك من طالب الجيش بالانقلاب على سانتشيز.

لم يسبق لأي رئيس حكومة (ماريانو راخوي وسانتشيز) ان حصل منذ نهاية الثنائية الحزبية سنة 2015 على 179 صوت نيابي. وهذا يحسب لسانتشيز.

سانتشيز استطاع أن يقنع ويستقطب إليه تشكيلات سياسية يجمع بينها الكثير ويفرقها الكثير أيضا. اقنع الاستقلاليين الكتالان ERC، والجمهوريين الكتالان Junts، وقل الشيء نفسه عن القوميين الباسكيين PNV وbildu، بل أقنع حتى تحالف الكناري CC، علما أن تجمع Sumar وأخواته كان منذ الصيف في “جيب” سانتشيز. بقي اليمين واليمين المتطرف pp-vox، يغردان لوحدهما في المعارضة.

معطى اخر لا يقل أهمية وهو أن سانتشيز نصب رئيسا ب12.6 مليون صوت انتخابي (من اقتراع 23 يوليو 2023)، وهو رقم لم يحقق منذ 2004 عندما نصب ثاباتيرو ب13.5 مليون صوت انتخابي (لا أتحدث هنا عن الأصوات النيابية). كانت المهمة تبدو مستحيلة بعد الانتخابات الجهوية والمحلية في مايو 2023 على أثر الهزيمة الكارثية لليسار، وبدت صعبة بعد الانتخابات التشريعية في يوليوز 2023، إلا أن سانشيز جعل المستحيل والصعب ممكنا.

سانشيز جعل المستحيل، أو على الأقل، الصعب ممكنا. الرجل يحكم إسبانيا منذ 2018. ست سنوات من التدبير الحكومي في سياق وطني واقليمي ودولي صعب ومتقلب، وهو صامد. الأحداث السابقة تعزز فرضية بقاء سانشيز في الحكم إلى 2028 أو 2027 رغم الرسالة القنبلة.

لا أقول إن سانتشيز سيقرر مواصلة رئاسة الحكومة الحالية، بل يمكن أن ينتظر حتى 30 مايو المقبل للإعلان عن انتخابات سابقة لأوانها في الصيف المقبل، لحصد المزيد من المقاعد، وتعزيز نفوذه، ولكيلا يبقى أسير خيارات الاستقلاليين والانفصاليين والقوميين.

الأهم بالنسبة للمغرب

هناك فرضيتان: التنحي أو الاستمرارية. في حالة قرر التنحي الدستور الاسباني يسمح بثلاثة سيناريوهات:

أولا: الإعلان عن انتخابات سابقة لأوانها، ولكن الدستور ينص على ضرورة مرور سنة على آخر يوم أعلنت فيه انتخابات سابقة لأوانها، وهو الامر حدث السنة الماضي، وعليه على سانشيز انتظار حتى 30 ماي المقبل. كما يجب مرور 54 يوما لتنظيم الانتخابات، أي أنها ستجرى في الصيف.

ثانيا: يمكن أن يطلب سانشيز ثقة الكونغرس للبقاء في منصبه أو العكس. تجديد الثقة فيه يعني الاستمرار في المنصب، في حالة العكس يفقد الثقة، ويعين الملك مرشح جديد للتصويت عليه، وفي حالة فشله كذلك، تعلن الانتخابات.

ثالثا، يستقيل سانشيز وتصبح نائبته الأولى رئيسة بالنيابة في انتظار أن يصوت الكونغرس على رئيس جديد للحكومة.

رسالة بيدرو سانشيز تبقى شأنا إسبانيا وأوروبيا وحتى لاتينيا، ولا تعني المغرب والمغاربة في أي شيء، يقول قائل. موقف الدولة الاسبانية من المغرب وقضية الصحراء ثابت ولا يتغير بتغير الأشخاص والحكومات، يقول آخر. الرأيان يحترمان، ولهما ما يبررهما. لكن الأمر ليس بهذه البساطة. التجربة البرتغالية في الشهور الأخيرة علمتنا أن اليمين واليمين المتطرف يناور من أجل العودة للحكم. لا يمكن أن نتصور في اسبانيا حكومة يمينية، مثلا، بدون وجود حزب فوكس. الثنائية الحزبية انتهت والتعددية الحزبية تفرض التحالف بين كل التشكيلات المنتمية لنفس العائلة السياسية.

هناك وجه شبه كبير بين ما جرى في البرتغال واسبانيا. رئيس الحكومة البرتغالي السابق، الاشتراكي انطونيو كوستا، اتهمته النيابة العامة في الخريف الماضي بالفساد، واضطر الى الاستقالة، ودعا الى انتخابات سابقة لأوانها. لم يترشح كوستا.

استغل اليمين ذلك، بحيث فاز قبل أيام بالانتخابات التشريعية، وهي الانتخابات التي افرزت اليمين المتطرف كثالث فاعل حزبي ب50 مقعد برلماني. الفرق الوحيد هو أن النيابة العامة في اسبانيا لم تتهم زوجة بيدرو سانشيز، بل قاض هو من فتح التحقيق معه. خروج سانشيز من الحكومة والسياسة قد ينعش امال اليمين واليمين المتطرف في العودة للحكم في ظل غياب سياسي ذي كاريزما وشعبية قادر على تعويض سانشيز.

فوكس حزب معادي للمغرب والمغاربة، ويستعمل كل الوسائل للإساءة للمغاربة وتسميم العلاقات الثنائية بين البلدين. وحتى فيما يخص قضية الصحراء لا يمكن ضمان دعم فوكس كلياً بحكم أنه لازال يؤمن بإسبانيا الكبرى، ولم يستوعب فكرة استرجاع الأقاليم الجنوبية من قبل المغرب بعد الاستقلال.

الحزب الشعبي، فعلا، سيحافظ على نفس علاقات الدولة مع المغرب في حالة وصل الى الحكم. الاشكال يكمن في شريكه فوكس. لا يمكن أن تصور مثلا، مستقبلا، أن يسهل الحزب الاشتراكي حكومة بقيادة الحزب الشعبي كما حدث في البرتغال.

بقاء سانشيز في الحكم سواء من خلال قرار مواصلة العمل في الحكومة الحالية أو الدعوة إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها والعمل على الفوز بها هو الخيار الانسب للمغرب ولحماية العلاقات المغربية الاسبانية ومواصلة تنزيل المشاريع الكبرى التي تضمنها اعلان الرباط المؤرخ في 7 ابريل 2022، بعد الاجتماع الذي انعقد بين الملك محمد السادس وبيدرو سانشيز في القصر الملكي بالرباط.

بقاء سانشيز في الحكم يضمن تنزيل المضامين ال74 التي سطرت في بيان الرباط في فبراير 2023 على هامش القمة الاسبانية المغربية ال12. كما يسمح كذلك بمواصلة ما اتفق عليه خلال الزيارة الاخيرة لسانشيز للمغرب في فبراير الماضي.

مع سانشيز في الحكم استطاع المغرب تحييد الضجيج الذي أحدثه الحزب اليساري الجذري قادرون/ بوديموس. هذا الحزب المعادي للمغرب في قضية الصحراء انتهى كليا، وآخر مسمار دق في نعشه كان يوم الاحد المنصرم بعدما خسر 6 مقاعد في برلمان الباسك وخرج خالي الوفاض. فحتى تشكيل سومار، وريث بوديموس وما جوره، اصبح أكثر براغماتية وواقعية ولم يعد يثير قضية الصحراء الا للاستهلاك الإعلامي والأيديولوجي لا غير.

بقاء سانشيز قد يسهل اعلان اعتراف اسباني واضح بمغربية الصحراء قبل 2030، وليس فقط دعم مشروع الحكم الذاتي.

بقاء سانشيز يسهل عملية تسليم تدبير الملاحة الجوية في الصحراء للمغرب.

بقاء سانشيز في الحكم يسهل ولوج الشركات الاسبانية الى الداخل المغربي والاقاليم الجنوبية.

بقاء سانشيز يسهل تنسيق التنظيم المشترك لمونديال 2030 بحكم انه المدافع الأول والرئيس عن هذا المشروع في الجارة الشمالية.

بقاء سانشيز يعني تسهيل تسوية وضعية آلاف العمال المهاجرين المغاربة بإسبانيا.

بقاء سانشيز قد يسهل عملية التفكير في مبادرة لحل النزاع بخصوص الثغور المحتلة من قبل اسبانيا.

في النهاية، بقاء سانشيز يضمن التناغم والانسجام والتفاهم والتعاون والحوار الذين لم يسبق لهم مثيل بين البلدين. تقاطر الوزراء والمسؤولين والخبراء والكتاب الاسبان على المغرب أصبح روتينيا في الشهور الاخيرة، ولا أحد يريد عكس ذلك.

لهذا تهمنا رسالة سانشيز ومصيره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News