أي مضمون سياسي لشعار الدولة الاجتماعية؟

لمرحلة طويلة ظل الخطاب السياسي ببلادنا مشحونا بكل القضايا التي تهم الديمقراطية وحقوق الإنسان بمعناها السياسي (الانتخابات- الإصلاحات الدستورية- بناء المؤسسات- إصلاح الإدارة، الحريات السياسية.الخ…)، ولم تكن قضايا المجتمع والتنمية تثار في النقاش العمومي إلا كقضايا هامشية، أو كخلفيات صدامية ضد الدولة.
وفي كل المراحل التي قطعتها بلادنا من أجل ترسيخ قواعد الديمقراطية وإصلاح المؤسسات كانت النخب السياسية والثقافية والقنوات التأطيرية (الأحزاب- النقابات- الجمعيات- الأندية- المجلات- الكتب- الصحافة المكتوبة..) تساير كل التحولات الطارئة، وتنخرط في كل النقاشات العمومية من مختلف المواقع. والأهم أنه في مختلف الإصلاحات الكبرى التي أعلنتها بلادنا لتحقيق التوازنات المفروضة في كل مرحلة تاريخية معينة، من أجل تهيئي شروط الانتقالات المؤسسية المطلوبة كانت النخب المعنية بسيرورة هذه التحولات موجودة لانجاز شروط ومضمون هذه التعاقدات، وتحمل نتائجها.
ويتأسس هذا المقال على فرضية مفادها أن مسارات الحقل السياسي ببلادنا الأكثر قدرة على تحقيق التحولات النوعية هي المسارات السياسية التعاقدية أكثر منها المسارات الانتخابية بالمعنى المقصود من الانتخابات ومن الديمقراطية التمثيلية بقواعدها الشكلية المعروفة. حيث إن الانتخابات، والحالة هاته، شكلت، على الدوام، محصلة إجرائية لتوافقات قبلية، قد تكون معلومة أو غير معلومة حسب السياق، أو لتوافقات غير منجزة لم يكتب لها التحقق في سياقات تاريخية معينة.
وقد كثفت هذه التعاقدات في مراحل بعينها جوهر الإصلاحات المطلوبة لتحقيق الاستقرار المؤسساتي و السياسي والاجتماعي. والمقصود هنا بالتعاقدات السياسية هي التوافق الحاصل بين القوى السياسية من جهة، والدولة من جهة أخرى لانجاز الانتقالات المطلوبة في كل مرحلة. لم تكن هذه التعاقدات ذات مضامين دستورية بالضرورة، طالما أنه في مراحل متعددة لم يتحقق التوافق الدستوري المطلوب. وكان من الطبيعي، في كل مرة تجريب منطق التوافق السياسي (أي المصلحة المشتركة) على آلية التوافق الدستوري. وفي كل مرة كان إشهار الورقة الدستورية اختبارا لكل الأطراف المعنية. فمن جهة الدولة، كان موضوع الدستور مرهونا ، بالدرجة الأولى باختبار “النوايا الإصلاحية الحقيقية” لأطراف المعارضة. فيما ظلت ، هذه الأخيرة، تشهر ورقة الإصلاح الدستوري فيما يشبه مناورة سياسية للضغط على الدولة من أجل انتزاع مكتسبات سياسية. وقد كان لهذه المبارزات السياسية مبررات تاريخية من الطرفين من أجل التوافق على قواعد وشروط الإصلاح المؤسساتي من منظور الدولة الوطنية الجديدة. دولة ما بعد الاستقلال.
فبعد فشل التعاقد السياسي الأول فجر الاستقلال مع أقطاب الحركة الوطنية، وما عرفته البلاد من توترات وعنف لسنوات طوال، سيتم انجاز التعاقد السياسي الأول بين الدولة نفسها، وبين “أحزابها” ( تلك التي كانت تسمى بأحزاب الإدارة في معجم المعارضة). طبعا، كان هذا التعاقد واجهة سياسية مفروضة لتدبير الصراع مع المعارضة ولتيسير المسلسل الديمقراطي، في عز الصراع الطارئ حول قضية الصحراء المغربية وما تطلبه الأمر من إجماع وطني. وقد كانت الدولة هي المبادرة لرسم طبيعة وحدود هذا التعاقد، في سياق دولي صعب لم تفلت بلادنا منه جراء تبعات الحرب الباردة، والتقاطبات التي خلفتها داخليا وخارجيا.
ثم، جاء التعاقد الثاني بين المعارضة والدولة بعد عقود من الصراع لتحقيق ما سمي بالتناوب التوافقي، وإنجاز شروط المصالحة الحقوقية والسياسية والثقافية بشعاراتها المعروفة في سياق تهيئ انتقال الحكم. ولهذا الغرض ، تعبأت مؤسسات الدولة وكل الفاعلين المعنيين بتيسير هذا المسار، ليس فقط على المستوى السياسي بل أيضا على المستوى الحقوقي والإعلامي. وقد كانت الدولة هي المبادرة لرسم طبيعة وحدود هذا التعاقد. لم يتحقق كل شيء، لكن تحقق الأهم، وهو ضمان الاستقرار السياسي والمؤسساتي، والانتقال من خطاب المواجهة إلى خطاب التوافق الوطني على قاعدة المفهوم الجديد للسلطة.
وجاء التعاقد الثالث بين الحركة الإسلامية والدولة في سياق ما عرف بالربيع العربي وتبعاته الإقليمية المثيرة . وكانت الحصيلة إقرار دستور 2011، ووصول الإسلاميين إلى الحكم. وقد كانت الدولة، مرة أخرى، هي المبادرة لرسم طبيعة هذا التعاقد وشروطه وحدوده عبر مفاوضات واسعة للتوافق حول الوثيقة الدستورية من جهة، ولتيسير إشراك الإسلاميين في “اللعبة السياسية” ضمن منطق التوافق الوطني الذي تم انجازه بالسلاسة المطلوبة.
وقد كان لكل مرحلة سياسية عناوين كبرى تؤطرها، ونخب بارزة تتحمل مسؤولية إنجاز هذا التعاقد وفق الشروط التاريخية لكل مرحلة. لكن الأهم، وهو أن كل هذه المراحل كانت مسنودة بفاعلين سياسيين يدركون جيدا بأن قواعد اللعبة تنبني، أولا وأخيرا، على القدرة على تحقيق التوافقات السياسية المطلوبة ضمن المعادلة الكبرى للسياسة، تلك التي تسميها الأدبيات السياسية بـ”موازين القوى”.
فكان التعاقد السياسي الأول مسنودا بشعار المسلسل الديمقراطي والإجماع الوطني.
وكان التعاقد الثاني مسنودا بشعار التناوب التوافقي والمصالحة.
وكان التعاقد الثالث مسنودا بشعار محاربة الفساد والاستبداد.
واليوم، يبدو أن الشروط السياسية المؤسسة لشعار الدولة الاجتماعية لا تحمل مضمونا تعاقديا بالمعنى السياسي الذي تحدثنا عنه ، بقدر ماهو شعار يترجم أجندة الدولة نفسها نظرا لارتفاع منسوب الطلب الاجتماعي، وتعطل مؤشرات التنمية البشرية. في سياق استثنائي خاص تؤطره حالة غير مسبوقة وغير مفهومة من الانكماش السياسي والإعلامي، وفي غياب عروض سياسية (مجتمعية) تؤطرهذا الشعار، وتسنده بمضامين حقيقية.
إننا ننطلق هنا من فرضية مفادها أن تاريخ الإصلاحات المهمة في بلادنا كانت ثمرة لتعاقدات سياسية، مسنودة بقوى اجتماعية ونقابية وحقوقية، وتعبيرات ثقافية وإعلامية رائدة، استطاعت أن تساهم في تطوير المسار الديمقراطي، وفي وضع المسألة الاجتماعية والتنموية في قلب الاهتمامات الوطنية.بل استطاعت أن تساهم في تحقيق التوازنات الاجتماعية والسياسية المطلوبة لتأمين مسارات كل هذه الانتقالات.
واليوم، بعد أن انقرضت الوسائط التقليدية للتأطير المجتمعي والثقافي،و حيث لا شيء في الأفق يؤشر على إمكانية استعادة وهج الديناميات السياسية التي أطرت المراحل السابقة، وبعد أن اختارت التعبيرات الاجتماعية الجديدة قنواتها الالكترونية الخاصة المنفلتة من أي تأطير ، وبعد أن دخلنا مرحلة جديدة في بناء العلاقات الدولية بالموازاة مع انكماش الفعل السياسي وتجرده من أي امتداد في الداخل و الخارج، وبعد أن أصبح “المؤثرون” في مواقع التواصل الاجتماعي يغطون تقريبا كل المساحات في النقاش العمومي، مع ما يرافق ذلك من ابتذال واستهجان، من حقنا أن نتساءل اليوم، ما الذي تبقى من الشعارات الإصلاحية الكبرى التي أطرت المراحل السابقة، والتي شكلت في كل مرة خلفية داعمة للإصلاح؟ وبالمحصلة، نتساءل عن المضمون السياسي- المجتمعي الذي يؤطر ويسند شعار الدولة الاجتماعية في مرحلة يعلن فيها اقتصاد السوق تغوله على حساب السياسة والمجتمع والبيئة والثقافة، وفي سياق يعلن فيه الحوار الاجتماعي فشله في استيعاب التعبيرات الاجتماعية والفئوية المتضاربة.