العلامة محمد السعيدي الرجراج.. الذاكرة المغربية تفقد أحد حرّاسها

فقدت الثقافة المغربية أحد وجوهها اللامعة، العلامة والأديب محمد السعيدي الرجراجي عن عمر ناهز 86 عاما، لكن أثره سيبقى شاهدا على أن الفكر الأصيل لا يموت، بل يمتد في كتبه وتلامذته وذكراه الطيبة.
وبرحيله مساء الأربعاء 8 أكتوبر الجاري، تكون الساحة الثقافية والأكاديمية قد فقدت واحدا من رجالاتها الكبار الذين جمعوا بين دقة المؤرخ، وذوق الأديب، وورع الفقيه، وصفاء المتصوف.
وبالنظر إلى مكتبته العريقة والغنية بالمراجع والإصدارات، والتي كانت بنكا نادرا للوثائق الوطنية، يقول أحد أفراد عائلته إن السعيدي الرجراجي تجاوز حدود التأليف، إذ كان مثالا للفقيه الذي يزاوج بين العلم المتجذر في إرث “زاوية ابن حميدة” التي ينتمي إليها، وبين الانفتاح على مستجدات العصر السياسية والأدبية، لذلك تمثل مرجعيته ثقلا كبيرا في حقول التاريخ الصوفي، وتوثيق الذاكرة الوطنية، ودراسة الأدب النقدي، ذلك أن العديد من مؤلفاته ودراساته النقدية تحولت إلى مصادر أساسية للباحثين.
جذور علمية ومقاومة وطنية
ولد الراحل محمد السعيدي الرجراجي في أواخر دجنبر 1939 بزاوية ابن حميدة نواحي مدينة الصويرة، في بيت مشهود له بالعلم والفقه والثقافة والسياسة أيضا. فوالده عبد الله الرجراجي كان عالما فقيها ألّف عدة مؤلفات في التاريخ والسياسة والفقه والسيرة النبوية، منها: “السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول” (في جزأين)، و”المواهب الربانية في ذكر مناقب الطائفة الرجراجية”، و”مرآة الدسائس في محنة الاستعمار المُزالة بفضل الله وعبده محمد الخامس”. كما كان جده من العلماء الذين كتبوا في تاريخ رجراجة.
وبعيدا عن إلمامه بالعلم والفقه، فقد كان عبد الله الرجراجي أحد رموز المقاومة التي ناهضت الاستعمار الفرنسي من قلب رجراجة، كما أن بيته آوى الشهيد محمد الزرقطوني لمدة شهر أثناء مطاردته من قِبل الفرنسيين عام 1954. والأكثر من ذلك أن الطفل محمد السعيدي الرجراجي عانى، وهو ابن خمس سنوات فقط، النفي مع عائلته لمدة اثنتي عشرة سنة نواحي آسفي (1944 – 1956).
مسار علمي متين
وتلقى محمد السعيدي تعليمه الأولي في الكُتاب على يد شيوخ كبار، وحفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة، إلى جانب تعلمه قواعد التجويد والقراءة برواية ورش.
كما واصل تعليمه النظامي بـ”المدرسة العبدلاوية الحرة”، حيث حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1956، ثم التحق بـ”الكوليج”، فـ”ثانوية محمد الخامس” بمراكش، التي تلقى بها علوم اللغة العربية وتاريخ الإسلام والعلوم والطبيعيات والأدب الفرنسي وتاريخه، قبل أن يتابع دراسته في مركز تكوين المعلمين بالمدينة الحمراء عام 1959.
وفي سنة 1964 نال شهادة الباكالوريا، والتحق بكلية اللغة العربية بمراكش، حيث تتلمذ على نخبة من العلماء المغاربة والمشارقة من أعلام الفكر العربي والإسلامي.
وتُوّج مساره العلمي بالحصول على الإجازة سنة 1967، إلى جانب دبلوم الترجمة ودبلوم الصحافة العامة من القاهرة سنة 1961، وهو ما أتاح له أفقا معرفيا واسعا جمع بين الدرس الأكاديمي والممارسة الإعلامية والفكر النقدي.
في ستينيات القرن الماضي، أخذت معالم مساره المهني ترتسم بوضوح، إذ تقلّد الراحل مناصب إدارية وتربوية في وزارة التربية الوطنية، موازاة مع نشاطه الفكري والأدبي الذي انفتح من خلاله على مجالات متعددة.
وشارك في ندوات ولقاءات علمية داخل المغرب وخارجه، وأسهم في الصحافة بآرائه القيمة من خلال مقالاته في جرائد العلم، الرأي العام، المشاهد، الميثاق الوطني، النضال الديمقراطي، دعوة الحق، مجلة أمل التاريخية، ومطبوعات المندوبية السامية للمقاومين وأعضاء جيش التحرير، ومجلة جامعة بن يوسف، فضلا عن اشتغاله معدا ومقدما لبرنامج “نافذة الأسبوع” بإذاعة مراكش الجهوية سنة 1968. كما حصل على الجائزة الأولى لأقدم وثيقة في مسابقة جريدة العلم بمؤسسة علال الفاسي.

فسيفساء أدبية
وتميزت مؤلفات محمد السعيدي الرجراجي، حسب مقربين من عائلته، بتنوع موضوعاتها وتكاملها، إذ امتدت من الشعر إلى التاريخ، ومن النقد الأدبي إلى التحقيق والترجمة والفكر السياسي. ففي الشعر مثلا كتب عدة دواوين، ضمنها: الحياة وأنا، دمع العراق ودمعي، قلمي فديتك، من أحاور، كالشمس في طفل، ملامح هادئة (من ستة آلاف بيت)، أمل وضياء، تقول وأقول، قبسات من سيرة نبي الإسلام (من أربعة آلاف بيت).
ومن أبرز مؤلفاته المطبوعة: الحياة وأنا (شعر، 1968)، الهاربة (رواية، 1973)، السيف المسلول فيمن أنكر على الرجراجيين صحبة الرسول (تحقيق، 1987)، شاعر الحمراء بين الواقع والادعاء (جزآن، 1999 و2001)، الفقيه محمد العبدي الكانوني: حياته وفكره ومؤلفاته (2000)، رجراجة وتاريخ المغرب (2004)، جواهر الكمال في تراجم الرجال (تحقيق، 2004)، رباط شاكر والتيار الصوفي حتى القرن السادس الهجري (2010)، صراخ الذاكرة (لمحات من سيرة ذاتية، 2019)، وعلال الفاسي.. صوت أمة وضمير شعب (2025).
كما ترك أعمالا قيد الطبع، منها تواريخ مشرقة من حياة الملك والشعب، واقع الصراع في منطقة المغرب العربي، دور العلماء في الأمن الروحي والوعي الفكري في عهد الدولة العلوية، وأعمالا أخرى غير مطبوعة، ضمنها القصيدة العمودية بين الأصالة والتحديث، في الإسلاميات، أحاديث أدبية، الهاربة (الجزء الثاني)، علاقة المغرب بإفريقيا من خلال عهد المنصور الذهبي، والذي كما عرفته، المغرب: هوامش في سفر التاريخ والسياسة… فضلا عن كتب أخرى محققة، مثل: سلم القاصدين إلى حضرة أشرف المرسلين، المواهب الربانية في مناقب الطائفة الرجراجية، مواهب المنان فيما طلبه السيد عمر بن سليمان.
مدرسة في البحث والتأليف والتوثيق
ومن خلال هذا الزخم التأليفي الذي أهّله ليصبح عضوا فاعلا في اتحاد كتاب المغرب، حصل محمد السعيدي الرجراجي أيضا على وسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الممتازة.
وامتدت اهتماماته إلى الأنشطة الثقافية والجمعوية، فقد كان عضوا فاعلا بمؤسسة الفقيه عبدالله السعيدي الرجراجي للتنمية والثقافة، وكاتبا عاما سابقا لجمعية أساتذة اللغة العربية بمراكش، ورئيسا سابقا لجمعية خريجي كلية الدراسات العربية بالمدينة نفسها، فضلا عن رئاسته لمؤسسة الكانوني للتنمية الثقافية والاجتماعية بآسفي، التي يُعد مؤسسا لها.
كما كان ممثل زوايا رجراجة في لقاءات سيدي شيكر العالمية للتصوف، وعضوا فاعلا بجمعية إحياء جامعة بن يوسف بمراكش.
