جيل الغد وبناء الثقة في سياسات الشباب

كنت قد قررت الشروع في كتابة هذا المقال قبل أيام، غير أنني آثرت تأجيله إلى ما بعد الاستماع إلى الخطاب الملكي السامي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الجديدة، لما يحمله هذا الموعد من رمزية دستورية وسياسية عميقة، ولما يتضمنه من توجيهات ملكية سامية تشكل بوصلة للعمل الوطني في مختلف المجالات. فخطاب العرش لا يُقرأ بمعزل عن السياق العام، بل هو تأطير استراتيجي يرسم معالم المرحلة المقبلة ويضع النقاط على الحروف في ما يخص أولويات الدولة وتوجهاتها، ومن هذا المنطلق يصبح أي نقاش حول السياسات العمومية، خصوصاً تلك الموجهة للشباب، بحاجة إلى أن يستنير بما جاء في هذا الخطاب من مضامين تؤكد على الجدية والمسؤولية وتدعو إلى تجديد الثقة بين الدولة والمجتمع وتفعيل آليات العمل بدل الاكتفاء بالتشخيص أو النوايا.
لا يمكن إنكار أن المغرب قطع أشواطاً مهمة في بناء سياسات عمومية واستراتيجيات وطنية موجهة للشباب، سواء من خلال المبادرات الملكية أو البرامج الحكومية التي حاولت معالجة إشكالات التشغيل والتعليم والتكوين والمشاركة، فهناك رؤية وطنية واضحة تعترف بدور الشباب في التنمية وتضعهم في صلب الرهانات الكبرى للبلاد.
غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في غياب السياسات، بل في ضعف التنزيل وغياب الفعالية في الممارسة الميدانية.
فالخطط قد تكون متقدمة في تصورها، لكن التنفيذ غالباً ما يصطدم بعقبات بيروقراطية وتداخل الاختصاصات وغياب التنسيق بين الفاعلين، ولكن أيضا بسبب ضعف التشبع بقيم المواطنة الحقة والحرص على المصلحة العامة بتحري الجدية والمسؤولية، مما يحول، والحالة هذه، دون تحقيق الأثر المنتظر منها.
إن ما نعيشه اليوم هو أزمة في منهجية التطبيق أكثر مما هو فراغ في الرؤية، فالدولة المغربية تمتلك رصيداً مهماً من الوثائق المرجعية والاستراتيجيات القطاعية، غير أن التحدي الأكبر هو تحويلها إلى واقع ملموس يشعر به المواطن، خاصة الشباب الذين يظلون في مواجهة يومية مع صعوبات التشغيل وضعف العدالة الاجتماعية وتراجع الثقة في المؤسسات و الأحزاب.
وهذه الفجوة بين التخطيط والتنفيذ هي التي تفتح الباب أمام تنامي اليأس والإحباط في صفوف المواطنين والشباب منهم بشكل خاص، مثلما تغذي النزعات السلبية بل والاتجاهات غير البناءة في التفكير والنقد، وهي التي تتحول، بعد عملية تراكمية، إلى احتجاجات غير منظمة بل إلى فوضى غير خلاقة ولا تليق بالمجتمع المغربي المعروف بسلميته ونهجه الحضاري وتلاحم كل مكوناته في السراء والضراء.
ولعل تقوية الجبهة الداخلية تبدأ من إعادة الاعتبار للثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، عبر إصلاح طرق تنزيل البرامج وربط المسؤولية بالمحاسبة، فالمغاربة لا يرفضون الإصلاح ولا يعارضون الدولة، بل يطالبون بالصدق والنجاعة في التصور والأداء معا.
والمغرب في تاريخه الطويل لم يكن يوماً بلداً هشاً أو سهل الاختراق، بل كان دولة عريقة تحكمها الشرعية المؤسساتية وتؤطرها روح الوطنية الجامعة، ولهذا فإن أي دعوات للتشكيك في تماسكه أو استقراره لا تجد ولن تجد أبدا أي صدى لدى شعب يدرك، حق الإدراك، معنى الدولة ومعنى الانتماء للوطن.
إن المغاربة يرفضون الوصاية الفكرية أو السياسية من الخارج، ولا يقبلون أن يتلقوا الدروس ممن لا يعرفون طبيعة هذا البلد ولا عمق تجربته، فالمغرب كان وسيظل قادراً على تدبير أزماته بنفسه، وبالاعتماد على مؤسساته الشرعية التي تشكل الضمانة الأساسية لاستمرار الدولة.
إن اللحظة التي نعيشها لا تعدو أن تكون مجرد لحظة وفرصة لتعميق مراجعة وتجديد أساليب العمل العمومي والسياسي حتى يستعيد الشباب ثقتهم المفقودة، لعدة أسباب موضوعية وذاتية، في المؤسسات السياسية ويشعروا بأنهم جزء أصيل من مشروع وطني متكامل لمواصلة بناء الدولة الصاعدة كما نتوق إليها جميعا.
وفي النهاية، تبقى الحقيقة واضحة: المغرب يمتلك كل مقومات النهوض والصمود، ولديه رؤية وبرامج تخترق كل المستويات المركزية والجهوية، لكن ما ينقص هو الدقة في التنفيذ والصرامة في المتابعة وتفعيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، وإعطاء إشارات عملية قوية بأن التهاون في النهوض بالمسؤليات والتلاعب بمقدرات الدولة وأموالها العمومية، لا ينبغي أبدا أن يظل بدون ردع ولا محاسبة. و لن يكون ذلك إلا من خلال الانتصار لأحكام الوثيقة الدستورية و تفعيل الحلول المؤسساتية .
وعندما يتحقق ذلك، ولعله أمر غير عصي، سيصبح الاستثمار في الإنسان المغربي هو الاستثمار الأجدى، وستتحول طاقات الشباب من الغضب إلى الإبداع، ومن الشك إلى الثقة، ومن التذمر إلى المشاركة الفاعلة في بناء وطن آمن، متماسك، وواثق بنفسه وبمستقبله.