قراءة هادئة في الخطاب الملكي لافتتاح البرلمان

قبل تحليل أهم مضامين الخطاب الملكي السامي لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، وجب التذكير بداية بالسياق العام الذي يحفّه، وهو أنه من جهة يأتي في السنة الأخيرة من الولاية التشريعية الحالية، وهو ما يفرض تسليط الضوء على حصيلة البرلمان بغرفتيه، بأغلبيته ومعارضته بالنظر إلى الاختصاصات الموكلة إليه دستوريا، في التشريع، وفي تقييم السياسات العمومية، وفي مراقبة عمل الحكومة المنبثقة منه، في السياسات والخطط والبرامج التي تسهر على تنفيذها.
ومن جهة ثانية يأتي الخطاب الملكي بعد أيام من احتجاجات شبابية مطالبة بتحسين ولوج المواطنين إلى الحقوق الاجتماعية، ولاسيما الحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق في الشغل، ومحاربة الفساد.
لذلك حظي الخطاب الملكي بلحظة ترقّب قصوى من قبل الشباب المحتجين سلميا، ومن قبل الملاحظين والفاعلين ووسائل الإعلام الوطني والدولي.
جواب ملكي بمنطق الدولة والمؤسسات
فعلا جاء الخطاب الملكي من حيث مضامينه متجاوبا مع هذين السياقين (السنة الأخيرة من الولاية التشريعية، واحتجاجات الشباب)، لكن بروح ومنطق الدولة ومصلحتها العليا واستمراريتها واستقرارها. إذ غلّب الخطاب الملكي منطق الدولة المغربية، القائمة على الدستور والمؤسسات والتنظيمات، بعيدا عن الانفعال اللحظي، لأن منطق الدولة هو الاستمرارية والأفق الاستراتيجي، مع استحضار الإكراهات والتهديدات الخارجية والإقليمية للمغرب، والرهانات المتعلقة بمشاريعه الوطنية الكبرى المرتبطة بالتزامات دولية، وقضاياه المصيرية، ولاسيما قضية الوحدة الترابية للمغرب، التي راكمت فيها الديبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك، نجاحات كبيرة ستطوي الملف نهائيا لصالح السيادة المغربية في هذه الفترة بالذات، وهي القضية التي بسببها لا يخفى على أحد، عمل أعداء الوطن، على التربص به، واستغلال أي فرصة لتأجيج الوضع فيه، وزرع بذور الفتنة للنيل من استقرار المغرب وتعطيل عجلة تقدمه.
واهم من كان ينتظر أن خطاب جلالة الملك، سيجيب مباشرة على كل نقطة نقطة من مطالب الشباب المعبر عنها، على الرغم من شرعيتها. أولا لأن الخطاب الملكي عادة في افتتاح دورات البرلمان يكون موجَّها بالدرجة الأولى إلى البرلمانيين والحكومة، بتوجيهه للسياسات والخطط والبرامج والتشريعات وتقييمها وتصحيح اختلالاتها. طبعا التوجيه الملكي في مثل هذه المناسبات قد لا يستثني باقي الفاعلين مثلا الأحزاب أو النقابات أو الإعلام أو حتى المواطن باعتباره موضوع هذه السياسات والبرامج.
وفقا لهذا المنطق، كان جواب الخطاب الملكي أعلى من سقف المطالب الشبابية من حيث المنظور الاستراتيجي البعيد عن كل انفعال لحظي، أو ردّ مرحلي، لأنه دعا إلى تفعيل وتحصين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل المواطنين المغاربة، وفق رؤية استراتيجية عمادها تحصين المكتسبات، وتعزيزها ودعمها، وتجاوز النواقص وتصحيح الاختلالات. فكيف كان جواب الخطاب الملكي للمطالب الاجتماعية للشباب؟
الصحة، التعليم، الشغل في صلب برامج التنمية الترابية
بمنطق استمرارية الدولة، دولة المؤسسات، ذكّر جلالة الملك بخطاب العرش الأخير، الذي وجّه فيه الحكومة لاعتماد جيل جديد من برامج التنمية الترابية ذات التأثير الملموس، والتي تهم على وجه الخصوص:
- دعم التشغيل؛
- تقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية، خاصة في مجال التربية والتعليم، والرعاية الصحية؛
- التدبير الاستباقي والمستدام للموارد المائية؛
- إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج.
هذه البرامج تهم قضايا كبرى، تتجاوز الزمن الحكومي والبرلماني، يقول الخطاب الملكي، انسجاما مع الديناميات التي أطلقها جلالته، سعيا إلى تحقيق عدالة اجتماعية ومجالية، وهذا هو المنظور الاستراتيجي للملك بخصوص بناء الدولة الاجتماعية، وفي هذا الباب دعا الخطاب الملكي الفاعلين وعلى رأسهم الحكومة إلى التركيز على القضايا التالية:
- الاعتناء أكثر بالمناطق الأكثر هشاشة خاصة الجبال والواحات؛
- التنمية المستدامة للسواحل الوطنية؛
- توسيع نطاق برامج المراكز القروية الناشئة لتقريب الخدمات الاجتماعية والاقتصادية من المواطنين بالعالم القروي.
الخطاب الملكي أكد مرة أخرى على عمل جلالته من أجل استفادة الجميع، من ثمار النمو، ومن تكافؤ الفرص، بين أبناء المغرب الموحّد، في مختلف الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولم يفت الخطاب أن دعا جميع الفاعلين إلى الالتزام بتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفوارق المجالية، ليس كمجرد شعار فارغ، أو أولوية مرحلية، وإنما باعتبارها توجها استراتيجيا، ورهانا مصيريا، ينبغي أن يحكم مختلف السياسات التنموية.
ولم يخل الخطاب الملكي من نبرة انتقادية للفاعلين، خصوصا الحكومة والبرلمان، وإن بطريقة غير مباشرة، ويظهر ذلك حين دعا جلالته الفاعلين وبهدف تحقيق التحول الكبير من خلال التنمية الترابية، إلى إحداث تغيير في العقليات، وفي طريقة العمل، وترسيخ ثقافة النتائج المعتمدة على معطيات ميدانية دقيقة، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة، والعمل بوثيرة أسرع، وأثر أقوى للجيل الجديد من برامج التنمية الترابية.
وتظهر النبرة النقدية للخطاب كذلك، حين دعا جلالته أعضاء مجلس النواب لتكريس سنتهم الأخيرة لاستكمال المخططات التشريعية وتنفيذ البرامج والمشاريع المفتوحة، بروح من الجدية والمسؤولية، والتحلي باليقظة والالتزام، في الدفاع عن قضايا المواطنين. داعيا الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية والمنتخبين ووسائل الإعلام وفعاليات المجتمع المدني وكل القوى الحية في المجتمع، إلى إعطاء عناية خاصة بتأطير المواطنين وبالخصوص فيما يتعلق بحقوقهم وحرياتهم.
و نبّه جلالة الملك، إلى أنه لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى، والبرامج الاجتماعية، مادام الهدف هو تنمية البلاد، وتحسين ظروف عيش المواطنين. ولعلّ في هذا التنبيه، تصحيح لبعض الشعارات التي سعت إلى المقابلة أو المفاضلة بين المشاريع الوطنية الكبرى التي فيها التزامات دولية للمغرب، وبين البرامج الاجتماعية التي تدخل في صميم بناء الدولة الاجتماعية التي تسعى إليها الدولة كتوجّه استراتيجي، علما أن كلا المشروعين، يمكن أن يسيرا بشكل متواز، ويعودا بالنفع على المغرب والمغاربة.
في الختام وجب التنبيه، إلى أنه مُخطِأ من يعتقد أن الخطاب الملكي جاء منتصرا لهذا الطرف أو ذاك، حكومة أو أغلبية أو معارضة، بل إن الترويج لهكذا ادعاءات، لن يؤدي سوى إلى تجاذبات سياسية أو فئوية، لا فائدة منها. سوى بتّ الفُرقة والانقسام، في الوقت الذي يؤكد الخطاب الملكي على مبدأ الوحدة، حين يدعو إلى تكافؤ الفرص بين جميع أبناء المغرب المُوحَّد في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا ينسجم مع وضع الملك باعتباره وفقا للدستور، رئيسا للدولة المغربية بكل مكوناتها، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحَكَم الأسمى بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات.
سعيد خمري
مدير مختبر القانون والحقوق
كلية الحقوق المحمدية
جامعة الحسن الثاني بالدرالبيضاء