هل سيصبح ” الحزب” الرقمي بديلا جديدا عن الديمقراطية التقليدية؟

كثير من السياسيين وصناع القرارلا يدركون بأن ” الحراك” الرقمي سيصبح معادلة مهمة في السياسة ، وفي مسرح الأحداث الوطنية. ولأنهم لا يقرؤون مستجدات الحياة السياسية ،فإنهم ما زالوا يصرون على تجاهل هذه الديناميات العابرة للأوطان، وينظرون إليها بكثير من الحيطة والتوجس والريبة والخوف.ففيما يذهب البعض إلى اعتبارها تعبيرات ” مشبوهة ” و ” فوضوية”، غير منضبطة للنظام العام،يذهب البعض الآخر إلى اعتبارها تعبيرات ” قاصرة و غير ناضجة طالما أنها غير قادرة على فرز قياداتها .
والحال أن العالم الجديد ، القريب منا، شهد هذه الديناميات الرقمية(وما زال يشهدها ، كما سيشهدها في المستقبل) وهي التي أعلنت رفضها لكل العروض الحكومية الرسمية، وانطلقت من إدارة ” تنظيماتها” عبر المجال الرقمي. وبغض النظر عن التطورات اللاحقة التي عرفتها هذه التنظيمات، فإنها تلتقي في تعبيراتها في نبذ الانتساب الايديولوجي والحزبي بتخطي عروض اليمين واليسار، والتعبير عن تطلعاتها في تجاوز الأنماط التقليدية باعتماد أسلوب “الاستفتاء الداخلي ” في اتخاذ القرار.
مع نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، ستتأسس بايطاليا حركة ” النجوم الخمسة“من طرف الممثل الكوميدي ” بيبي غريلو”.وسينصب نفسه انطلاقا من مدونته الشخصية(التي ستحتضنها شركة كبرى للنشر والانترنيت)مناضلا راديكاليا ضد الفساد السياسي وضد حكم الأحزاب التقليدية. وأسس حركة رقمية تسعى إلى تجاوز الإعلام العمومي والنظام التمثيلي الانتخابي. حيث اعتبرت الحركة أن الإعلام العمومي تجاوزه الزمن، وأن الصحافة الرسمية لا مصداقية لها. وصرح بأن حركة النجوم الخمسة حركة مدنية غير سياسية تتمحور حول الحضور المباشر للمواطنين عبر الانترنيت، وتجمع كبارالمدونين وكتاب الرأي، وتعتمد الاستفتاءات الداخلية في تعميم الأخبار. وأطلقت منصات للنقاش العمومي،وتحضير التعبئة والدعاية عبر البث الحي. وفي غضون أشهر ستصبح الحركة حزبا سياسيا انتخابيا، وسنة 2013 ستصبح الحركة أول قوة سياسية في البرلمان.وستنتقل الحركة من المعارضة إلى الحكم سنة2018 بعد فوزها العريض في الانتخابات.
وفي اسبانيا، سيؤسس بابلو اغليسياس، النجم الإعلامي الشهير،حركة بوديموس بوصفها تعبيرا جديدا عن ” ديمقراطية الجمهور” معلنة أنها حركة لا حزبية تنتفض ضد سياسة التقشف ،وتطالب بالعدالة الاجتماعية وتستقطب التعبيرات الاحتجاجية والاجتماعية القائمة ، من خلال الشبكة العنكبوتية. وأعلنت الحركة فشل الأحزاب التقليدية في تمثيل الشعب، واعتمدت تنظيما مرنا دون حدود ايديولوجية أو تراتبية تنظيمية،معتمدة صناعة القرار عبر التداول الالكتروني، والمنصات الرقمية. وسنة 2015ستصبح القوة الثالثة في البرلمان الاسباني.
وفي فرنسا، ستطلق حركة ” السترات الصفراء” احتجاجاتها الأولى سنة 2018 بدون قيادة ، وبدون بيان مطالب،لتتحول إلى موجة عمق حقيقية من خلال وسائط التواصل الاجتماعي معلنة مطالبها من أجل إقرار العدالة الاجتماعية والجبائية، ورفع القدرة الشرائية ، ودعم فئات العاطلين،وفرض الضريبة على الثروة…. وستدعو الحركة إلى ما يسمى ب ” الاستفتاء الشعبي الدائم” كأداة للديمقراطية الشعبية.
وإذا كانت حركة بوديموس وحركة النجوم الخمسة وحركة السترات الصفراء تشكل تعبيرات اجتماعية جديدة تصنفها بعض التحاليل في إطار ” الحركات الشعبوية الجديدة” فإنها بالمقابل تعتبر إحدى الأوجه السياسية التي أعلنت أزمة الأنظمة الانتخابية التقليدية، ومأزق العمل الحزبي في علاقته بالمجتمع.
والأهم من ذلك، أنها وليدة العالم الرقمي الذي فرض ” تنظيما” خاصا للتعبير عن هذه الحركيات،تلتقي في اعتماد آلية التداول والقرارعبر وسائط الاتصال، و استقطاب الجمهور على خلفية الاحتياجات والمطالب المعبر عنها،وليس على خلفية الاصطفاف الحزبي والايديولوجي.
وفي بلادنا حيث تجتمع كل الشروط الموضوعية التي تخرج السياسة من مجالاتها التقليدية إلى مجالاتها الرقمية الجديدة،فإن بروز حركات مماثلة ليست مستبعدة ، ليس فقط بحكم القرب” السياسي” من ولادة هذه التجارب،بل أيضا لأن المشترك بينها الرافض لكل العروض الحكومية، والمتبرم من الأحزاب، ومن البيروقراطية، ومن الإعلام الرسمي يجعل منها وصفات جديدة في مجابهة تغول اقتصاد السوق ، وتلاشي السياسة، وانهيار الإعلام العمومي.
إن الجيل المصاحب لهذه الحركات قد لا يتقن (ربما) الجدل الدستوري، ولكنه يعرف كيف يحول منصات التواصل إلى آلية للاستفتاء ، من أجل اتخاذ القرار. وهذا ما نجحت فيه التعبيرات الجديدة العابرة للأوطان. وقد يشكل قوتها القادمة.