كيف تعامل خطاب الملك محمد السادس مع مطالب “جيل زد”؟

ألقى الملك محمد السادس، في افتتاح السنة التشريعية الجديدة، خطابا حظي بمتابعة واسعة، لأنه جاء في لحظة سياسية واجتماعية دقيقة، تزامنت مع حالة ترقب وانتظار عام لإمكانية اتخاذ قرارات حاسمة تجاه الحكومة أو البرلمان. غير أن الخطاب الملكي جاء مخالفا لهذه التوقعات، إذ اختار الملك أن يظل داخل منطق الدستور ومقتضياته، مؤكدا أن الإصلاح الحقيقي لا يتم بقرارات فوقية أو انفعالية، بل من خلال المؤسسات وبآليات ديمقراطية واضحة تضمن استمرارية الدولة وتوازن السلط.
في البداية، وجه الملك، في مستهل خطابه، رسائل دقيقة إلى مختلف الفاعلين السياسيين. فقد انتقد بطء أداء الحكومة وضعف تفاعلها مع القضايا الاجتماعية، ودعا البرلمان إلى تفعيل صلاحياته الرقابية والتشريعية، كما نبه الأحزاب إلى محدودية حضورها وضعف قدرتها على التأطير والتواصل مع المواطنين. ومع ذلك، حافظ الخطاب على طابعه الدستوري الهادئ، إذ مارس الملك دوره التوجيهي كرئيس للدولة، دون أن يتجاوز الحدود التي رسمها الدستور لصلاحياته.
جاء هذا الخطاب امتدادا لخطاب العرش الأخير، الذي شدد على ضرورة مواصلة الإصلاح المؤسساتي الهادئ والعميق. فالملك ذكر ضمنيا بأن دستور فاتح يوليوز 2011 أسس لتوازن جديد في توزيع وتوازن السلط، ومنح الحكومة صلاحيات واسعة باعتبارها الجهاز التنفيذي المسؤول عن السياسات العمومية. لذلك لم يستجب الملك للدعوات التي طالبت بحل البرلمان أو إقالة الحكومة، لأن مثل هذه الخطوات كانت ستشكل عودة إلى ما قبل الإصلاح الدستوري وتقويضا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
لا يمكن فهم الخطاب الملكي دون استحضار السياق الاجتماعي الذي جاء فيه. فـ“جيل زد”، الذي يمثل شريحة من الشباب المغربي، أطلق خلال الأسابيع الأخيرة موجة احتجاجات رقمية واجتماعية ركزت على قضايا التعليم، الصحة، الشغل، العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد. بخلاف حركة 20 فبراير سنة 2011، التي رفعت شعارات سياسية في زمن “الربيع العربي” وطالبت باصلاح دستوري ومؤسساتي شامل، ومحاربة اقتصاد الريع، ومحاسبة لصوص المال العام، وإقرار دولة الحق والقانون والمؤسسات، فإن احتجاجات “جيل زد” اليوم تنطلق من واقع معيشي مباشر وتبحث عن حلول ملموسة، لا عن تعديلات سياسية كبرى، فهو بذلك يطالب بتحسين ظروف الحياة اليومية أكثر مما يطالب بتغيير قواعد اللعبة السياسية.
لقد التقط الخطاب الملكي هذا التحول في طبيعة المطالب، فخاطب الشباب بلغة الهدوء والمسؤولية، مؤكدا أن الدستور يمنح الحكومة الصلاحيات الكافية لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وأن دور المؤسسة الملكية هو السهر على احترام هذا التوازن وضمان حسن سير المؤسسات. هكذا جمع الخطاب بين الإنصات لنبض الشارع والالتزام بالشرعية الدستورية، دون الانجرار إلى ردود أفعال لحظية أو اتخاذ قرارات استثنائية.
لكن الاهم، أن الحراك الشبابي الأخير كشف عن أزمة عميقة في المشهد السياسي المغربي. فالأحزاب السياسية، التي يفترض أن تقوم بدور الوسيط بين الدولة والمجتمع، فقدت جزءا كبيرا من قدرتها على التواصل والتأطير وظلت في غالبيتها سجينة صراعاتها الداخلية وغارقة في البحث عن مصالحها الضيقة . وفي إطار هذا الفراغ القاتل، برز “جيل زد” كفاعل اجتماعي جديد، استطاع أن يملأ الفضاء العمومي، مستفيدا من شبكات التواصل الاجتماعي التي جعلت صوته مسموعا في الداخل والخارج. لقد فرض هذا الجيل إيقاعا جديدا على الحياة السياسية، وأجبر الإعلام الدولي والمنظمات الحقوقية على الاهتمام بحراكه وتحليل دلالاته ومتابعة خطواته.
يظهر خطاب الملك محمد السادس اذن، خريطة طريق متوازنة بين الحفاظ على استقرار المؤسسات واحترام الدستور من جهة، والإنصات للمطالب الاجتماعية من جهة أخرى. لقد اختار الملك التوجيه بدل التدخل، والتذكير بالمبادئ بدل اتخاذ قرارات فوقية، مؤكدا أن التغيير الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا عبر تفعيل المؤسسات، لا عبر تجاوزها.
في المقابل، عبر “جيل زد” عن تحول عميق في أشكال المشاركة السياسية والاجتماعية، وعن رغبة حقيقية في إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. إنه جيل لا يطالب بإسقاط النظام، بل بإصلاح الأداء، وتفعيل النصوص الدستورية التي وضعت من أجل العدالة الاجتماعية والمجالية والكرامة والشفافية والحكامة.
بين هدوء المؤسسة الملكية وحيوية الشارع الشبابي، يتبلور اليوم توازن جديد في الحياة السياسية المغربية. فالملك حافظ على روح الدستور كمرجعية لضمان الاستقرار، فيما طالب الشباب بتفعيل مضامينه حتى يلمس المواطن أثره في حياته اليومية. إنها لحظة مفصلية في مسار الدولة، عنوانها الكبير: الملكية تذكر بالمبادئ، والشباب يطالب بالفعل.