سياسة

التوجيهات الملكية تعكس أولويات المرحلة التنموية الجديدة

التوجيهات الملكية تعكس أولويات المرحلة التنموية الجديدة

يشهد المغرب اليوم إطلاق مسار نموذج جديد للتنمية الترابية المندمجة، وهي مرحلة تتطلب تعبئة جماعية ومسؤولية مشتركة بين مختلف مكونات الدولة: الحكومة، والمؤسسات المنتخبة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والمواطنين.

كما تعد مرحلة تستوجب تسريع التنفيذ الميداني للسياسات العمومية المندمجة التي تضع المواطن في صلب التنمية، وتترجم التوجيهات الملكية إلى مشاريع واقعية وملموسة على أرض الواقع.

في هذا السياق، واستحضارًا لمضامين الخطاب الملكي السامي الأخير بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، وكذا الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد العرش ليوم 29 يوليوز 2025، يتعين التأكيد على أن تنزيل النموذج التنموي الجديد يدخل مرحلة نوعية تتأسس على جيل جديد من برامج التنمية الترابية المندمجة، قوامها العدالة المجالية، والنجاعة في الأثر، وتثمين الخصوصيات المحلية لكل مجال ترابي.

وتقتضي هذه المرحلة اعتماد مقاربة جديدة للتنمية المجالية ترتكز على التكامل بين البرامج الوطنية الكبرى والمشاريع المحلية ذات الوقع المباشر على حياة المواطنين، وعلى الانتقال من منطق التدبير الروتيني إلى منطق التنمية الفعلية ذات الأثر الملموس.

وانطلاقًا من الرؤية الملكية التي جعلت من المواطن المغربي محور السياسات العمومية وأساس التنمية، وجب تفعيل مشاريع نوعية تجسد الانتقال من منطق التدبير إلى منطق الإنجاز الفعلي، ومن السياسات المجزأة إلى السياسات المنسقة والموجهة نحو الأثر التنموي القابل للقياس.

ويشكل تسريع تفعيل ورش الجهوية المتقدمة إحدى الدعائم المركزية للنموذج التنموي الجديد، وتجسيد التعليمات الملكية الرامية إلى تمكين الجهات من الاضطلاع بأدوارها الكاملة في التخطيط والتمويل والتنفيذ.

وفي ضوء التوجيهات الملكية الواردة في خطاب العرش لسنة 2025، فإن الجهوية المتقدمة تمثل الإطار الأمثل لتنزيل جيل جديد من البرامج الترابية المندمجة، المؤسسة على تثمين خصوصيات كل جهة، وضمان التكامل والتضامن بين مختلف الكيانات الترابية.

وتقتضي هذه الرؤية الجديدة الحرص على انسجام هذه البرامج الجهوية مع النموذج التنموي الجديد وأدوات التخطيط الاستراتيجي المعتمدة، بما يتيح تخطيطًا متماسكًا، وتوزيعًا أمثل للموارد، وتعزيز التنسيق وضمان التتبع الفعّال.

وليست الجهوية المتقدمة مجرد إصلاح إداري، بل هي مدخل لترسيخ العدالة المجالية وتقريب القرار التنموي من المواطن، ووسيلة عملية لتحفيز الاستثمار المحلي وتثمين المؤهلات الذاتية لكل جهة، في انسجام مع التوجه الملكي الرامي إلى جعل كل جهة فاعلًا رئيسيًا في التنمية الوطنية الشاملة.

ويستوجب هذا الورش تعزيز المقاربة التشاركية عبر تنظيم مشاورات جهوية ومحلية تجمع الفاعلين الترابيين من منتخبين ومصالح لا ممركزة ومؤسسات عمومية وفاعلين اقتصاديين واجتماعيين، من أجل إعداد برامج ترابية مبنية على تشخيص دقيق وبيانات محينة، وفق مقاربة تستهدف الفئات السكانية ذات الأولوية.

هذه الخطوات تمثل ترجمة عملية للرؤية الملكية الرامية إلى تحويل الجهة من مجرد إطار إداري إلى فضاء استراتيجي منتج للثروة ومولد للفرص، بما يضمن الارتقاء التنموي المتوازن بين مختلف ربوع المملكة.

يعتبر ملف التشغيل، خاصة تشغيل الشباب، تحديًا وطنيًا محوريًا، إذ يجسد التزام الدولة بجعل العمل اللائق مدخلًا للكرامة والتنمية.

وفي هذا السياق، وجب تفعيل التوجيه الملكي السامي الداعي إلى جعل التشغيل في صلب البرامج الترابية الجديدة، عبر تحديد الإجراءات والمشاريع ذات الأثر المباشر على خلق فرص الشغل، انطلاقًا من الإمكانات الاقتصادية المحلية وخصوصيات كل مجال ترابي.

وتستوجب المرحلة الحالية اعتماد جيل جديد من الآليات الداعمة للتشغيل، تقوم على الربط بين التكوين والاستثمار والإنتاج، مع تشجيع المبادرات المقاولاتية المحلية والمشاريع الصغرى والمتوسطة المولدة لفرص العمل.

ومن بين المحاور العملية في هذا المجال: إطلاق برامج جديدة للتشغيل الذاتي والمقاولة الناشئة، تبسيط مساطر التمويل والمواكبة والتوجيه، وتحفيز الاستثمارات المحدثة للشغل في القطاعات الواعدة ذات البعد الترابي، وتفعيل ميثاق الاستثمار كرافعة مركزية لتحفيز المبادرات الخاصة، خاصة في العالم القروي والمراكز الصاعدة.

فالتشغيل وفق الرؤية الملكية ليس مجرد ملف اجتماعي، بل هو ورش وطني للتنمية والإدماج الاقتصادي والاجتماعي، يتطلب تعبئة متكاملة من الدولة والمجتمع، ويشكل أحد المرتكزات الأساسية لجيل التنمية الجديد الذي دعا إليه الملك.

انسجامًا مع العناية الخاصة التي يوليها الملك محمد السادس لتقوية الرأسمال البشري، يتعين جعل التعليم والصحة في صلب البرامج الترابية المندمجة الجديدة التي دعا إليها جلالته في خطاب العرش.

وفي هذا الإطار، يجب تعزيز الخدمات الاجتماعية الأساسية عبر تحسين وتقوية منظومتي التعليم والصحة على المستويين الوطني والمحلي، بما يضمن كرامة المواطنين ويكرس العدالة الاجتماعية ويقلص الفوارق الترابية.

وفي مجال التربية والتعليم، يتعين تسريع تنفيذ خارطة الطريق لإصلاح المدرسة العمومية؛ الرفع من جودة التعلمات وتحسين الأداء التربوي للمؤسسات؛ تثمين المهن التعليمية وتحفيز الكفاءات التربوية وتعزيز التكوين المستمر؛ تعميم التعليم الأولي وتأهيل فضاءاته باعتباره قاعدة أساسية لبناء التعلم مدى الحياة؛ تقليص الهدر المدرسي وتعزيز تعميم التمدرس في العالم القروي؛ إدماج الرقمنة والمناهج المبتكرة في التكوين والتدبير.

أما في مجال الصحة، فيتعين تسريع تنزيل المنظومة الوطنية الموحدة للصحة في إطار ورش الحماية الاجتماعية الشاملة؛ تحسين العرض الصحي عبر بناء وتجهيز مستشفيات جهوية وإقليمية حديثة وفق معايير الجودة؛ توسيع التغطية الصحية لتشمل جميع الفئات الهشة؛ اعتماد الخدمات الصحية الرقمية لتقريب المرفق الصحي من المواطن؛ تحفيز الكفاءات الطبية الوطنية وتحفيز الأطر الطبية وشبه الطبية وتوزيعها بشكل عادل بين الجهات؛ تخصيص ميزانيات إضافية لتعزيز العرض الصحي في المناطق القروية والجبلية.

إصلاح التعليم والصحة ليس إصلاحًا قطاعيًا محدودًا، بل هو مشروع وطني متكامل يكرس العدالة الاجتماعية ويعزز ثقة المواطن في الدولة.

الإجراءات المرصودة في هذا المضمار تعكس بوضوح التوجيه الملكي القاضي بضرورة جعل التعليم والصحة ركيزتين أساسيتين لبناء مغرب الفرص والكرامة.

 هذه المقاربة الشمولية في التعليم والصحة تندرج ضمن رؤية ملكية تجعل من العدالة الاجتماعية أساس التنمية ومن كرامة المواطن هدف الكل السياسات العمومية.-

واعتبارًا لما جاء في خطاب العرش لسنة 2025، أصبح التدبير الاستباقي والمستدام للموارد المائية أحد أولويات التنمية المجالية الجديدة، بالنظر إلى التحديات المتزايدة المرتبطة بالإجهاد المائي والتغيرات المناخية.

كما يشكل التأهيل المجالي أحد الأعمدة الرئيسية لتحقيق العدالة الترابية وضمان الاندماج الاقتصادي.

ووجب العمل على تبني سياسات مائية مندمجة تجمع بين الاقتصاد في الاستهلاك، وتحلية المياه، وإعادة استعمالها، وحماية الموارد الجوفية، مع اعتماد حلول رقمية للتدبير والتحكم في التوزيع.

وفي تلازم مع هذا الورش، يتعين مواصلة برامج التأهيل المجالي الشامل، عبر تطوير البنيات التحتية الطرقية، والمائية، والطاقية، وربطها بالمشاريع الوطنية الكبرى، بما يضمن التكامل والانسجام الترابي، ويعزز تنافسية المجالات المحلية.

وفي هذا الإطار، يتعين العمل على مواصلة تنفيذ برامج مهيكلة تهدف إلى توسيع شبكة الطرق والمسالك القروية والرباطات الجهوية؛ تعميم الولوج إلى الماء الصالح للشرب والكهرباء وشبكات التطهير؛ دعم المدن المتوسطة والمراكز الصاعدة لتقليل الضغط عن الحواضر الكبرى؛ رقمنة الخدمات الإدارية وتحسين الولوج إلى المرفق العمومي؛ تطوير المناطق الصناعية والفضاءات الاقتصادية الجديدة؛ إدماج التحول الرقمي في التدبير المجالي، لتسهيل الخدمات وتكريس الشفافية.

هذا الورش المندمج يكرس رؤية الملك الرامية إلى تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية الاقتصادية والحفاظ على الموارد الطبيعية، في إطار عدالة بيئية ومجالية مستدامة.

نزولًا عند التوجيهات السامية للملك محمد السادس، يتعين إيلاء عناية خاصة بالمناطق الهشة والجبلية والواحات والسواحل، في إطار سياسات موجهة ومندمجة قائمة على العدالة البيئية والمجالية.

وجب تواصل اعتماد برامج تنموية جهوية ومحلية ترتكز على فك العزلة وبناء المسالك وتحسين الخدمات الأساسية؛ اعتماد خطط شاملة لتنمية الواحات تقوم على تثمين الموارد الطبيعية والمائية وتعزيز سلاسل الإنتاج الفلاحي المستدام؛ تفعيل برامج وطنية لتنمية السواحل لحماية البيئة البحرية وتشجيع الاقتصاد الأزرق والصيد التقليدي؛ تشجيع السياحة الجبلية والبيئية المستدامة وفق مقاربة تحافظ على الهوية المحلية؛ إدماج الطاقات المتجددة والاقتصاد الأخضر في مشاريع التنمية المحلية.

ويتعين الحرص على الاستهداف الدقيق للسكان بهذه المناطق بناءً على تشخيصات ترابية محينة ومؤشرات موضوعية، لضمان نجاعة البرامج وقياس أثرها الفعلي على حياة المواطنين.

بهذا التوجه، يتأكد الالتزام بترسيخ العدالة المجالية والبيئية وتعزيز صمود هذه المناطق أمام التغيرات المناخية وتحولات الاقتصاد الوطني.

انسجامًا مع الرؤية الملكية الداعية إلى تحقيق توازن مجالي بين الحواضر والعالم القروي، وجب توسيع نطاق البرنامج الوطني لتنمية المراكز القروية الصاعدة ليشمل عددًا أكبر من المراكز ذات الإمكانات الاقتصادية الواعدة.

ويرتكز هذا التوجه على تهيئة البنيات الأساسية من طرق وماء وكهرباء ومؤسسات تعليمية وصحية؛ دعم المقاولات القروية والأنشطة المدرة للدخل؛ تشجيع تثمين المنتوجات المحلية وتعزيز الابتكار الفلاحي؛ تحويل هذه المراكز إلى أقطاب اقتصادية محلية متكاملة.

كما ينبغي الحرص على التقائية وتكامل التدخلات بين البرامج القطاعية والترابية داخل هذه المراكز، لتفادي التكرار وهدر الموارد وضمان الأثر التنموي المشترك.

يمثل هذا الورش أحد أذرع النموذج التنموي المبتغى، ويجسد التوجه الملكي نحو مغرب القرب، ومغرب العدالة المجالية والتنمية المتوازنة.

هذه الأوراش الوطنية الكبرى، في ضوء التوجيهات الملكية السامية المتجددة، ليست مجرد خطط قطاعية، بل هي اختيارات استراتيجية تؤسس لمرحلة جديدة من البناء التنموي، قوامها الالتقائية، والشفافية، والنجاعة في الإنجاز، والتتبع الدقيق للأثر التنموي، والتعبئة الجماعية، والثقة في العمل العمومي.

ويتطلب نجاح هذه المرحلة الحرص على إشراك كافة الفاعلين المحليين والمؤسساتيين في إعداد البرامج وتنفيذها وتقييمها، ضمن مسار تشاركي يضمن الشفافية والمساءلة والالتزام بثقافة النتائج.

الإيمان بأن الرأسمال البشري، وخاصة فئة الشباب، هو الركيزة الأساسية لأي تحول حقيقي. ويتعين التأكيد على أن نجاح الانتقال مرهون بالتعبئة الجماعية والانخراط الفعلي لجميع الفاعلين: الإدارات العمومية، الجماعات الترابية، القطاع الخاص، والمجتمع المدني.

وفي ظل القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، وجب الوفاء لثقافة النجاعة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس دولة المؤسسات والإنصاف، من أجل مغرب الجهات، ومغرب العدالة الاجتماعية والمجالية، ومغرب المستقبل.

ويتعين تجديد الالتزام بتقوية الثقة في العمل العمومي وضمان استمرارية الإصلاحات الكبرى، وتوسيع فضاءات المشاركة المواطنة، بما يجعل من المرحلة الراهنة مرحلة الإنجاز الفعلي لترسيخ دولة المؤسسات والتنمية المتوازنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News