كرة القدم.. المستحيل ليس مغربيا

ما الذي يدفع عجوزا لخارج بيتها عند الثانية ليلا بعد منتصف الليل لتحتفل بين الجموع كطفلة عاد لها شبابها؟ وما الذي يدفع أبا ليحمل ابنته الصغيرة على كتفه ويجر بيده طفله الآخر الذي يلوح بالراية الحمراء؟
بل كيف انطلقت كل هذه السيارات من مرابدها لتتقاطر على شارع محمد الخامس وهي تطلق مكبرات صوتها عاليا؟ وكيف نزلت مغربيات من مختلف الأعمار يلتقطن صورا تذكارية مع الإعلام الوطنية؟
كيف كان لكل هذه المشاهد ان تفيض علينا دفعة واحدة في رمشة عين؟
وكيف تأتى لهذا الحماس ان يستبد بنا. ولهذه المشاعر الوطنية ان تغمرنا بكل ذاك الدفق، فتصدح كل هذه الحناجر بحب المغرب؟
لقد كانت ليلة استثنائية بكل المقاييس، لا في الرباط وحدها، بل في كل أنحاء المملكة، تحولت فيها شوارع الفرحة إلى مسارح للبطولة رأيت فيها الناس وقد امتزجوا والتحموا وتحولوا جميعا إلى أبطال حقيقيين يتقاسمون لحظة مجد وطني نادر.
إنها ليلة لم يكن فيها الوطن شعورا فقط، بل جسدا نابضا بالحياة امامنا
نعم. إنها كرة القدم، تلك الساحرة المستديرة من فعلت بنا كل هذه الأعاجيب. واخرجت منا كل تلك العواطف الجياشة. لا بل هي المعجزة أو الحلم الوطني الذي انتظرناه وعملنا له، فتحقق البارحة بالشيلي على أقدام المنتخب المغربي الشاب.
المؤكد أن المغرب قد صنع الحدث وتسيد العالم كرويا.
والمؤكد أن المحللين عبر العالم سيتوقفون كثيرا ليحللوا هذه الظاهرة المغربية الفريدة. هذا التميز. وهذا الاصرار على النجاح. ومن الان. أجزم أنهم سينتهون جميعا إلى اعلان حقيقة واحدة: إن ما انجزه المغرب بقطر بالأمس وما حققه بالشيلي، ليس صدفة ولا فلتة من فلتات او ضربات الحظ. لقد غير هذا البلد الجميل موازين الكرة عالميا، وهو في طريقه الى ان ينقل ريادتها من أوروبا وامريكا اللاتينية نحو إفريقيا ونحو المغرب تحديدا. ألا يقال إن إفريقيا هي أمل العالم؟
كم كان ممتعا هذا المونديال، مشوقا، مبهرا ومثيرا لنا نحن المغاربة. بل وملهما لنا.
كلما تقدم الأشبال كان الامل يكبر بقلوبنا. وكنا نفرك عيوننا غير مصدقين مبتهجين بما نراه امامنا كن أداء بطولي.
كنا مركزين جميعا على كأس إفريقيا، وقليل منا من توقع ان يكون الإنجاز بكل هذا الضخامة والمجد. إن نحصل على كأس العالم قبل أن ننظم الكان ليس بالمفاجأة، فوراء التتويج الباهر كان هناك تخطيط وجهد وعرق واستماتة وتضحية وشعور بقيمة الواجب وهيام وحب للوطن.
انه ثمرة عمل تراكمي بدأ منذ سنوات… مشروع رياضي وطني حلمنا به وقد نضج …ها هو يورق في الشيلي كما فعل بقطر، وغدا سيزهر في اماكن ومناسبات أخرى. وفي التفاصيل، كانت هناك ملك اسس هذه الاكاديمية التي حلق صيتها في الآفاق، ثم جامعة دؤوبة تملك استراتيجية، وبعد ذلك مدرب عمل في صمت وبعيدا عن الأضواء. مدرب آمن بأن الاضواء تلاحق النجاح ولا تسبقه، وهبي… ذاك المدرب الهادئ الذي صعد للقمة دون ضجيج قدم درسا بليغا في التواضع والاجتهاد والإيمان بالرسالة. وقد أكبرت ما أهداه للمغرب من فخار كما أكبره فيه كل المغاربة والعرب والأفارقة، ولكني فوق ذلك أراه مدرسة يمكن ان يستلهمها الشباب كل في حقل عمله واهتمامه. إنه الانعكاس الأمين للمقولة التي نرددها جميعا دون أن نتمثلها حقيقة .مقولة الرجل المناسب في المكان المناسب.. النموذج الذي نحتاج له في قطاعات كثيرة من قبيل التعليم، الثقافة، الابتكار، الاقتصاد.. إلخ .
مع وهبي، كان هناك شبان واعون بأن عليهم أن يدافعوا عن صورة قد ترسخت للقميص الوطني عبر العالم.
لقد ارتقى المغرب سلم المجد الكروي بقطر. وحين صار العالم ينظر له بإعجاب، صار هو حبيس هذه النظرة ملزما بالمحافظة على هذه المكانة السابقة. انهم شبان آمنوا بأن المعجزة يمكن لها أن تكون مغربية، شبان رأوا أن كل صعب على الشباب يهون، فناجزوا كبار اللعبة باقتدار وندية وشموخ، فكتبوا التاريخ بأقدامهم.
ما قام به المنتخب المغربي بالشيلي عبارة عن ملحمة كاملة الأوصاف. كأس العالم دليل ساطع على أن الشباب المغربي حين يوضع في مناخ الإبداع يمكنه أن يتفوق، أن يعطي، أن يكون فخرا لبلده وفرصة لها في مضمار الرقي والنمو.
أنها طاقة إيجابية قد وهبها لنا الله تعالى ستسري في كل اوصال المملكة، يمكن لنا أن نستثمرها بذكاء، للتخلص من شوائب اليأس والإحباط والسوداوية التي يزرعها البعض. إن هذا الزخم الذي ينطلق من المجال الكروي لخليق به أن يمتد لكل المجالات الأخرى. أن الدرس الذي لقنه لنا علي معمر، ابراهيم غوميز، الزابيري، عثمان معما.. بليغ جدا. إنه ليس شيئا آخر غير ان نؤمن بإمكاناتنا كمغاربة.. وان لا نحصر النجاح في ميدان الرياضة فننتبه للطاقة الكامنة في شباب المملكة التي تصير القابا ونجاحات وانجازات ما إن يجدوا التوجيه والثقة.
ليس ينبغي لهذا النصر الرياضي أن يبقى مجرد لحظة عابرة يغمرنا فيها الفرح والزهو، بل يجب أن نحسن توظيفه لإطلاق مشاريع في ميادين شتى. فالوطن الذي أنجب هؤلاء الابطال قادر أن ينجب عباقرة ومبدعين في كل مجال.
إننا لانريد ان نذكر فقط كأمة ابهرت العالم فوق العشب الأخضر. بل كاما تبهر في كل مجالات الحياة. فلننقل شعلة الحماس من الملاعب إلى أماكن العمل ومن مدرجات الكرة إلى مدرجات الجامعات. شكرا أسود الأطلس.