بين انتظارات الشارع ورسائل الدولة: قراءة في الخطاب الملكي ليوم 10 أكتوبر 2025

في الأيام التي سبقت افتتاح الدورة التشريعية، كانت الأجواء مشحونة بتوقعات غير مسبوقة. فقد انتظر جزء واسع من الرأي العام، وعلى رأسه شباب حركة “Z”، أن يأتي الخطاب الملكي حاسمًا ومفاجئًا، يحمل قرارات سياسية قوية كحلّ الحكومة أو البرلمان، باعتبارها إشارة رمزية إلى بداية مرحلة جديدة. غير أن الخطاب جاء في اتجاه مغاير تمامًا؛ إذ تبنّى نبرة هادئة ومؤسساتية، تُركّز على الاستمرارية والإصلاح المتدرج بدل القطيعة والصدام. وهنا تبرز المفارقة الجوهرية بين منطق الدولة ومنطق الشارع: فبينما انتظر المحتجون لحظة رمزية “تصحيحية”، اختارت المؤسسة الملكية خطابًا يكرّس التراكم والإصلاح الهادئ.
من البداية، حرص الخطاب على تثبيت فكرة الاستمرارية في العمل التشريعي والتنفيذي، مؤكدًا على ضرورة استكمال البرامج والمشاريع، والتحلي باليقظة والالتزام حتى نهاية الولاية. هذه الإشارة ليست تقنية فحسب، بل سياسية بامتياز، إذ تعبّر عن تمسّك الدولة بمسار الإصلاح داخل المؤسسات لا من خارجها. فبدل أن يتجاوب مع مطلب الإقالة أو الحل، فضّل الخطاب أن يذكّر البرلمانيين بأن الشرعية السياسية تُستمد من الاستمرارية والالتزام بالنتائج، لا من “لحظات الاستعراض.” بهذا المعنى، يمكن القول إن الخطاب أعاد تعريف مفهوم التغيير نفسه: فالإصلاح، في الرؤية الملكية، لا يتحقق بالصدمة بل بالتدرج؛ ولا يُفرض من الشارع بل يُبنى من داخل المؤسسات
و على الرغم من أن خطاب “حركة Z ” كان مشبعًا بلغة الغضب والرفض، فإن الخطاب الملكي جاء مشبعًا بلغة العقل المؤسساتي، مؤكدًا أن الدولة لا يمكن أن تنجر إلى الانفعال بل تتحرك بمنطق “الاستقرار المنتج”. ومن هنا، استخدم الخطاب مفاهيم مثل العدالة الاجتماعية والمجالية، وثقافة النتائج، وتحسين الأداء المحلي، كإطار استراتيجي يتجاوز الظرف السياسي.
وإذا ما استحضرنا نظرية المجال العام لـ يورغن هابرماس، نجد أن الخطاب الملكي يحاول استعادة السيطرة على المجال العمومي الذي احتله المحتوى الرقمي، مذكّرًا بأن النقاش العمومي يجب أن يُدار عبر مؤسسات منتخبة لا عبر خوارزميات الشبكات. وبالتالي، فالدعوة إلى “تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات العمومية” هي في الواقع دعوة إلى استعادة شرعية الخطاب المؤسسي، وإعادة ربط المواطن بمصادر المعلومة الموثوقة.
كان مطلب حركة “Z” في جوهره تعبيرًا عن أزمة ثقة أكثر منه عن رغبة في تغيير الأشخاص. ومع ذلك، رفض الخطاب الانجرار نحو “الاستجابة الانفعالية”، مؤكدًا أن إقالة الحكومة أو حل البرلمان لن يعالجا جذور الأزمة، لأنها ليست أزمة وجوه بل أزمة منهجية. ومن هنا، ركّز الخطاب على تحسين الفعالية الميدانية، تسريع التنمية الترابية، ومحاربة الممارسات التي تضيّع الوقت والجهد والإمكانات. هذه المفردات تترجم انتقال الدولة من منطق “الوعود السياسية” إلى منطق الحكامة بالنتائج، أي أن الشرعية لا تُبنى على الخطابات بل على الأثر الملموس. ولعل هذا ما ينسجم مع مفهوم الشرعية الأدائية (Performance Legitimacy)، حيث تستمد المؤسسات قوتها من قدرتها على الإنجاز لا من مجرد تمثيلها السياسي.
من اللافت أن الخطاب لم يتوجه إلى الحكومة وحدها، بل وزّع المسؤولية بشكل متوازن بين البرلمان، الأحزاب، الجماعات الترابية، الإعلام، والمجتمع المدني. هذه المقاربة تُعبّر عن تصور جديد لمفهوم المشاركة: فالمواطنون ليسوا جمهورًا يُخاطَب فقط، بل طرفًا في صناعة المجال العمومي.
بهذا المعنى، يمكن قراءة الخطاب كتصحيح غير مباشر لمعادلة مختلّة: فالدولة لا تستطيع أن تُصلح وحدها، والأحزاب لا يمكن أن تكتفي بدور المتفرج، والإعلام العمومي لا يمكن أن يبقى في موقع التبرير. الجميع مطالب بالعودة إلى الميدان، إلى الفضاء العمومي الحقيقي، حيث يُستعاد الحوار ويُبنى التوافق.
حين يشير الخطاب إلى ضرورة “تأطير المواطنين والتعريف بالمبادرات”، فإنه لا يتحدث عن التواصل كزينة خطابية، بل كجزء من الأمن الاجتماعي والسياسي. في ظل عصر المنصات، لم يعد غياب الرواية الرسمية مجرد قصور مؤسساتي، بل خطر يهدد تماسك المجتمع. وبناء على ما سبق، فإن المطلوب اليوم هو تحول نوعي في أدوات التواصل العمومي: إعلام مهني وشبابي قادر على تفسير السياسات، وحضور رقمي فعّال للدولة يملأ الفراغ الذي يسيطر عليه المؤثرون العدميون، إضافة إلى إدماج التربية المدنية في المناهج التعليمية لتكوين جيل يفهم معنى المشاركة والمساءلة.
في القسم الأخير من الخطاب، برز محور أساسي: ضرورة ترسيخ ثقافة النتائج، بحيث لم يعد كافيًا اتخاذ القرارات، بل أصبح مطلوبًا قياس أثرها. هذا التحول يعكس إرادة ملكية واضحة في ربط التنمية بالنجاعة، والاستثمار العمومي بالمردودية، والسياسات العمومية بالمحاسبة الواقعية، وهنا يمكن قراءة الخطاب كجزء من إصلاح ثقافة الدولة، لا كإصلاح ظرفي للحكومة.
لم يكن الخطاب الملكي مجرد ردّ على الشارع، بل كان تأطيرًا استراتيجيًا للمرحلة، فبينما انتظر المحتجون إعلان القطيعة، فضّل الخطاب أن يكرّس الاستمرارية؛ وبينما ارتفعت الأصوات مطالبة بحلول فورية، دعا الملك إلى حلول عميقة و مستدامة. لتكون الرسالة المركزية إذن هي أن الإصلاح الحقيقي لا يأتي من لحظة انفجار، بل من مسار طويل من التدرج والمسؤولية. لقد اختارت الدولة أن تحافظ على خيط الاستقرار دون أن تتجاهل الحاجة إلى التغيير، وهو خيار يعكس رؤية براغماتية تعتبر أن البناء أعمق من الهدم، وأن الشرعية لا تُكتسب بالصدمات، بل تُستعاد بالنتائج والثقة والتواصل.