بين التأثير وانتظارات الشارع.. الإعلام المغربي في مفترق الطرق

أعاد الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان دور الإعلام إلى الواجهة كشريك أساسي في تأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات التي تتخذها السلطات العمومية ومختلف القوانين والقرارات، سيما تلك التي تهم حقوق وحريات المواطنين بصفة مباشرة.
وحث الملك، في خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية الحادية عشرة، على إعطاء عناية خاصة لتأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات التي تتخذها السلطات العمومية، ومختلف القوانين والقرارات، لا سيما تلك التي تهم حقوق وحريات المواطنين، بصفة مباشرة، وخص بالذكر، إلى أجانب الحكومة والبرلمانيين والأحزاب والمنتخبين، وسائل الإعلام، لتقوم بهذا الدور.
وبرزت الحاجة إلى الدور التأطيري لوسائل الإعلام من خلال احتجاجات “جيل Z”، التي أنعشت النقاش حول وسائل الإعلام الوطنية، عمومية وخاصة، وقدرتها على إغناء النقاش العمومي عبر بسط السياسات العمومية للمواطنين وتقريبهم من الإجراءات والقوانين التي تهم واقعم اليومي لمناقشتها بوعي سياسي.
فتح أبواب النقاش العمومي الرصين
غضب الشارع الذي انتقل من منصة “ديسكورد” إلى القنوات العمومية مكن من إبراز منجزات وثعترات الحكومة الحالية مقابل تفاعل ونقد المحتجين، الذين وجدوا منصة تستمع وتوصل صوتهم الذي ظل حبيس العالم الافتراضي لسنوات.
بهذا الصدد، دعت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، انطلاقا من توجيهات الخطاب الملكي، إلى جعل الإعلام بمختلف قطاعاته فضاء للنقاش العمومي الرصين حول رهانات الدولة الاجتماعية، وآليات تعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية، بفتح منابر الإعلام العمومي والخاص على مختلف التعبيرات المجتمعية، وإبراز الجهود المبذولة ومكامن الخلل بقدر عال من التوازن.
وطالبت نقابة الصحافيين، في بلاغ توصلت جريدة “مدار21” بنسخة منه، بفتح نقاش وطني واسع حول تأهيل الإعلام الوطني العمومي والخاص، بما يضمن له الاستقلالية والنجاعة والتطور والتحديث والشفافية، ويوفر للصحفيات والصحفيين شروط العمل الآمن ويكرس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية باتفاقيات جماعية تصون المكتسبات وتعزز الحقوق، وبرامج التكوين المستمر، خدمة لقيم الحرية والكرامة والمسؤولية إزاء المهنة والمجتمع.
وأكدت أن التوجيه الملكي يشكل دعوة صريحة لتعزيز الثقة في الجسم الصحافي الوطني، ودعم دوره كقوة اقتراحية ومجتمعية تساهم في ترسيخ قيم المواطنة، وفي شرح ومواكبة السياسات العمومية وتقريبها من المواطن، بعيدًا عن كل محاولات التبخيس والتيئيس والتضليل.
بين مطلب القرب ووظيفة التأطير
في هذا السياق، أكد جواد الشفدي، رئيس المرصد المغربي للمشاركة السياسية، أن النقاش الوطني حول تأهيل الإعلام العمومي والخاص ضروري، ليس فقط لإصلاح المؤسسات الإعلامية، بل لإعادة تعريف وظيفة الإعلام في منظومة الديمقراطية التشاركية، معتبرا أن الإعلام القوي والمستقل والمواكب للتحولات هو شرط أساسي لتقوية الوعي الجماعي وضمان انخراط المواطنين في الشأن العام.
وأوضح الشفدي، في تصريح لجريدة “مدار21″، أن الحراك الشبابي الذي عرفته بلادنا خلال الأسبوعين الأخيرين أظهر بوضوح أن “المواطنين، وخاصة فئة الشباب، لا يبحثون عن الترفيه فقط، بل عن محتوى جاد وموثوق وقريب من واقعهم، يشرح السياسات العمومية ويمنحهم أدوات للفهم والمشاركة”، مؤكدا أنه بالضبط جوهر الوظيفة التأطيرية للإعلام، التي تراجعت لصالح منطق السرعة والسطحية في التناول.
واعتبر رئيس المرصد المغربي للدراسات السياسية أن الإشكال بالنسبة للإعلام العمومي اليوم، ليس ماديا بقدر ما هو بشري وتنظيمي، معللا موقفه بالوفرة في الموارد المالية نسبيا، مقابل النقص في تأهيل العنصر البشري القادر على مواكبة التحول الرقمي وتقديم خدمة إعلامية حديثة، تفاعلية، وقريبة من نبض المجتمع.
وشدد على الحاجة إلى استثمار حقيقي في الكفاءات الصحفية، والتدبير التحريري، وإعادة بناء العلاقة مع الجمهور على أساس الثقة والمصداقية.
وذكّر جواد الشفدي بمكانة الإعلام الوطني اليوم، في قلب معادلة دقيقة بين مطلب القرب من المواطن وبين دوره في تأطير النقاش العمومي، مفيدا أن الإعلام، إلى جانب مؤسسات الوساطة التقليدية كالأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، “يفترض أن يكون فاعلا أساسيا في تأطير المواطنين وتوجيه النقاش نحو القضايا الحقيقية، لا مجرد ناقل للحدث أو صدى له”.
إشارات ثقة لصحافة مهنية
بدوره، أكد الصحافي والكاتب مصطفى ابن الرضي أن الحاجة إلى نقاشٍ وطني لتأهيل الإعلام دائمة ومستمرة، مؤكداً أن النقاش بشأن الصحافة “غير مفصول عن موضوع الديمقراطية، وعمّا نريده بشأن مغرب الغد”، موضحاً أن “صحافةً قوية رديفةُ الديمقراطية وشقيقتها، إذ تتلازمان”، مشددا على أن ذلك “ما يفسر ارتباط جودة الإعلام، الخاص والعام، باستمرار، بمنسوب الحريات والهوامش المتاحة لهذا الإعلام ليؤدّي وظيفته”.
وأشار ابن الرضي إلى أن “الإعلام المغربي يعيش منذ سنوات على نحو شبه كلّي عبر الدعم العمومي”، مبرزا أنه “واقع يطرح إشكالات كثيرة، مرتبطة بالاستقلالية، وحدود المهنية، وبشكل الصحافة الذي نريد، والتي يستحقها الوطن”، بحسب تعبيره.
وأضاف أنه ورغم ذلك، “وفي تجارب كثيرة، يهدف الدعم العمومي إلى تمكين المؤسسات الصحافية العمومية من الاستقلالية، للنهوض بوظيفة السلطة الرابعة، التي يُفترض أنها موازية لباقي السلط، لا خاضعةً لها”، مضيفا أنه رغم ذلك، “الأصل هو حماية حق المؤسسات الصحافية في الوجود والاستقلال المالي، بتأمين شروط الشفافية في الولوج إلى مصادر الإشهار والتمويل المشروع. وشرط الحرية هو جوهر كل هذه الاختيارات”.
وذكر ابن الرضي في تصريحه أن “أيّ نقاش وطني بشأن الإعلام يجب أن تكون فيه الدولة شريكاً، لأنها معنيةٌ أكثر من غيرها بإرسال ما يكفي من الإشارات التي يجب أن تشدد على اهتمامها بتوطين ممارسة صحافية مهنية حقيقية، شريكة في الانتقالات”.
وبخصوص ما يحتاجه الإعلام الوطني ليضطلع بدوره، يرى ابن الرضي أن “الأولوية يجب أن تكون للحرية”، مسترسلا بأن “الإعلام شريك لبناء الديمقراطية وأنه سلطة، وليس ترفاً أو تابعاً، وإلا فإنه يفقد قيمته”.
وعبر في تصريحه عن أسفه لـ”معاناة الممارسة الصحافية بالمغرب من التدخّلات التي تحرّفها عن وظيفتها، وتجعلها أداةَ تعطيل للنزوع نحو الديمقراطية، ووسيلة إضرار بدولة الحق والقانون، ودولة المواطنين”.
وأكد المتحدث ذاته، مرة أخرى، أن شرط الحرية سابق على أي خطوة، و”تجسيدُه أن تبعث الدولة، بلا تردّد، بإشارات اقتناعها بأن الصحافةَ وإن كانت رفيقا مزعجا في الطريق إلى الديمقراطة، إلا أنها واجبةُ الوجود، وأنه لا قيام لديمقراطية في أي وطنٍ إلا بوجودها، باعتبارها إحدى أهم أدوات الحوار المجتمعي الحرّ”.
وتأسف ابن الرضي على دخول الصحافة في المغرب مسارات تضييقٍ، بين محطتي كورونا واحتجاجات “جيل زد”، من أبرز وجوهها “تلاعبٌ مفضوح بوظيفة الإعلام وتحويله إلى وسيلة للتبئير على أعطاب المجتمع لتغطية أعطاب السلطة، عبر محاصرة التجارب المهنية على قلّتها بكافة أشكال المحاصرة، في مقابل إطلاق اليد لتجارب تسيء للمهنة ووظيفتها”.