رأي

الجيل Z : التعبئة الرقمية وإعادة تشكّل السياسة العالمية

الجيل Z : التعبئة الرقمية وإعادة تشكّل السياسة العالمية

لم تعد الاحتجاجات الشبابية التي يشهدها العالم اليوم أحداثاً محلية معزولة، بل أصبحت تعبيراً عن تحول عالمي عميق يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافات السياسية. فمن الحركات الطلابية في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى انتفاضات الشباب في أمريكا اللاتينية، مروراً بالحركات الاجتماعية في العالم العربي، ووصولاً إلى الاحتجاجات الأخيرة في نيبال التي قادها جيل شاب يطالب بالعدالة والفرص والكرامة، يبدو أن جيلاً جديداً من المواطنين ـ جيل Z ـ بصدد إعادة صياغة علاقة الشباب بالسياسة والسلطة. وفي قلب هذه الدينامية، تظهرالتكنولوجيا الرقمية كوسيط أساسي للتعبئة والتنظيم، مما يمنح هذا الجيل قدرة غير مسبوقة على تجاوز الوسائط التقليدية والتواصل المباشر مع الرأي العام.

الجيل Z لا يُختزل في كونه فئة عمرية وُلدت في ظل الثورة الرقمية، بل هو مكوِّن اجتماعي عالمي يتميز بقدرة استثنائية على تحويل المنصات الرقمية إلى ساحات احتجاجية. لقد أصبح هذا الجيل في بلدان مثل تشيلي أو هونغ كونغ قادراً على صياغة أجندة سياسية بديلة، وفي الوقت نفسه حافظ على بُعد محلي يعكس الخصوصيات الاجتماعية والثقافية لكل بلد. فهو يجمع بين النزعة الكونية والالتصاق بالهموم اليومية، مما يجعله فاعلاً جديداً في المشهد السياسي والاجتماعي.

وقد أظهرت التجارب الدولية أن الحكومات تعاملت مع هذه الاحتجاجات بطرق مختلفة. ففي تشيلي، اعتمدت السلطات مزيجاً من القمع المحدود والحوار الاجتماعي لتخفيف التوترات، مع بعض التنازلات في سياسات النقل والتعليم. أما في هونغ كونغ، فكان رد الفعل أمنيًا صارمًا مع فرض قيود على التجمعات والاعتقالات، ما أدى إلى زيادة الاحتقان على المدى الطويل. وفي أوروبا وأمريكا الشمالية، فضّل بعض الدول اعتماد استراتيجيات دمج الشباب في القرارات السياسية عبر استشارات عامة ومنصات رقمية رسمية، بينما لجأت دول أخرى إلى تدخل أمني محدود مع تعزيز برامج اجتماعية محلية لتخفيف الغضب. أما نيبال، فقد حاولت السلطات الجمع بين الاعتراف بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية الأساسية وفرض مراقبة صارمة على التحركات الرقمية، مما يعكس نهجاً مختلطاً يجمع بين الاستجابة الجزئية والتضييق الأمني. هذه التجارب تؤكد أن استراتيجيات الدول تتنوع وفق مستوى مؤسساتها وقدرتها على التفاعل مع الشباب، وأن أي تجاهل طويل الأمد لمطالب الجيل Z قد يؤدي إلى تصعيد مستمر، حتى في الأنظمة المستقرة نسبياً.

ولا يمكن فهم غضب هذا الجيل دون التطرق إلى الأسباب البنيوية التي تغذيه. فهناك أولاً الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة والهشاشة، خصوصاً في صفوف الشباب. وهناك ثانياً الأزمة الاجتماعية التي تتجلى في تدهور الخدمات العمومية من صحة وتعليم، وفي محدودية آفاق الترقي الاجتماعي. ثم تأتي الأزمة السياسية التي تتمثل في ضعف الثقة بالمؤسسات وبالأحزاب التقليدية التي فشلت في استيعاب طموحات الجيل الجديد. ولا يقل عن ذلك أهمية البعد البيئي، حيث يشعر الشباب بأن مستقبلهم مهدد في ظل سياسات اقتصادية غير مستدامة. هذه العوامل مجتمعة تُحوِّل الاحتجاج من مجرد رد فعل ظرفي إلى تعبير عن أزمة بنيوية عالمية.

وفي المغرب، لم يأتِ حراك الجيل Z212 من فراغ، بل تَشكّل في سياق تزايد حالة الإحباط من الأداء الحكومي. فقد غذّت عدة عوامل هذا الغضب، أبرزها الفجوة بين الخطاب والواقع؛ ففي الوقت الذي يُبرز فيه رئيس الحكومة نجاحات دبلوماسية كبرى واستقراراً اقتصادياً نسبياً، يعيش الشباب معاناة يومية مع البطالة وهشاشة المنظومة الصحية وضعف المدرسة العمومية. هذا التناقض، المصحوب بخطاب يُنظر إليه على أنه متعالي و منفصل عن الواقع، أجج الاستياء. كما أن الأولوية التي أعطاها المسؤولون للمشاريع الرياضية المرتبطة بكأس العالم 2030 على حساب الاحتياجات الاجتماعية العاجلة فجرت شعاراً مركزياً في الاحتجاجات: “مستشفيات قبل الملاعب”. وزاد بطء الإصلاحات الموعودة في مجال الحماية الاجتماعية والخدمات الأساسية من شعور الشباب بأن الحكومة بطيئة، تكنوقراطية، وغير متجاوبة مع انتظاراتهم. و أما م غياب قنوات مؤسسية فعّالة للتعبير عن مطالبهم، اضطر الشباب الى اللجوء إلى الشارع والفضاء الرقمي كبديل للتأطير السياسي التقليدي. وجاء التعاطي غير الموفق مع بعض الأزمات الكبرى ـ مثل مأساة أكادير التي شكلت الشرارة المباشرة ـ ليُرسخ صورة حكومة بعيدة عن هموم المجتمع، تفتقر إلى التعاطف والقدرة على الإنصات. لذلك، لا يعكس حراك الجيل Z212 مجرد غضب عابر، بل يُجسد قطيعة أعمق بين شباب يطالب بالكرامة والعدالة، ونخب سياسية تبدو منفصلة عن واقعه اليومي.

ويثير هذا المشهد سؤالاً مركزياً: هل نحن أمام “ربيع شبابي جديد” يعيد إلى الأذهان موجة 2011، أم أننا بصدد إعادة تركيب للنظام العالمي تُعيد صياغة موقع الشباب ضمن معادلة السلطة؟ المؤشرات الحالية توحي بأن الأمر يتجاوز فكرة الربيع العابر إلى دينامية أعمق. فالجيل Z لا يطمح فقط إلى إسقاط أو معارضة حكومات، بل يسعى إلى إعادة تعريف قواعد المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية في سياق يتسم بتحولات جيواستراتيجية كبرى وبروز نظام عالمي متعدد الأقطاب.

إن الجيل Z لم يعد مجرد فاعل رقمي أو متمرد عابر، بل أصبح قوة اجتماعية وسياسية عالمية قادرة على زعزعة التوازنات التقليدية وإعادة رسم حدود الشرعية السياسية. وفي المغرب كما في نيبال أو تشيلي أو الولايات المتحدة، يعبّر هذا الجيل عن طموح كوني: الحق في الكرامة، في الفرص، وفي مستقبل يليق بالإنسان. وهذه الرسالة لا يمكن لأي حكومة أو نظام أن يتجاهلها دون ثمن سياسي واجتماعي باهظ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News