رأي

القرار السياسي بين مطلب التمثيلية وحاجات الاستقرار.. قراءة في موقف وزير الداخلية من مقاعد البرلمان

القرار السياسي بين مطلب التمثيلية وحاجات الاستقرار.. قراءة في موقف وزير الداخلية من مقاعد البرلمان

تعتبر التمثيلية البرلمانية من الركائز الأساسية لأي نظام ديمقراطي، إذ تتيح للمواطنين التعبير عن مصالحهم وأولوياتهم عبر المؤسسات التشريعية، وتكفل رقابة فاعلة على السياسات العمومية. وفي المغرب، أثار قرار وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت القاضي بالرفض القاطع لزيادة عدد مقاعد مجلس النواب نقاشًا سياسيًا واسعًا حول التوازن بين التمثيلية الشاملة واستقرار المنظومة المؤسسي

يأتي هذا القرار في سياق مطالب بعض الأحزاب بزيادة المقاعد لتعزيز مشاركة الشباب والنساء والأحزاب الصغرى، مطالب اعتبر وزير الداخلية أنها لا تخدم المصلحة الوطنية ولا تتناسب مع أولويات الإصلاح السياسي الراهن.

يهدف هذا المقال إذن إلى تقديم قراءة متعمقة   في هذا قرار وزير الداخلية، من خلال تحليل أبعاده النظرية، القانونية، المؤسسية، والمقارنة الدولية، مع تسليط الضوء على بدائل محتملة لتعزيز التمثيلية دون الإضرار بالاستقرار المؤسسي.

الإطار النظري

مفهوم التمثيلية السياسية:
التمثيلية السياسية هي قدرة المؤسسات التشريعية على ترجمة مصالح ومطالب المجتمع بشكل عادل ومتوازن. وتتميز التمثيلية بعدة أشكال: التمثيلية النسبية، التمثيلية النوعية (الشمولية) وتمثيلية الفئات المهمشة حيث تؤكد الأدبيات السياسية أن التمثيلية ليست مجرد عدد من المقاعد، بل ترتبط أيضًا بفاعلية المشاركة، ونوعية التشريع، وارتباط النواب باحتياجات المواطنين.

الحكامة والنجاعة التشريعية:
تربط الحكامة السياسية بين الشفافية، المساءلة، وفعالية الأداء المؤسساتي. وفي هذا السياق، تعد النجاعة التشريعية معيارًا أساسياً لتقييم فعالية البرلمان، إذ يحدد مدى قدرة النواب على سن قوانين تحاكي الأولويات الوطنية دون إضاعة الموارد أو إطالة الزمن التشريعي.

العدالة التمثيلية ومبدأ المناصفة:
تشدد النصوص الدستورية المغربية على مبدأ المساواة والمناصفة في المشاركة السياسية، خاصة فيما يتعلق بتمثيل النساء والفئات المهمشة. ويؤكد هذا المبدأ على أن أي إصلاح برلماني يجب أن يوازن بين التمثيل العددي وجودة الأداء التشريعي، مع ضمان تمثيل كافٍ للفئات غير المهيمنة في العملية السياسية.

تشكل العدالة التمثيلية أحد الركائز الأساسية لأي نظام ديمقراطي، حيث تسعى إلى ضمان أن تعكس المؤسسات السياسية تنوع المجتمع بشكل عادل ومتوازن. في المغرب، تؤكد النصوص الدستورية، ولا سيما دستور 2011، على مبدأ المساواة والمناصفة في المشاركة السياسية، وهو ما يتجسد بشكل واضح في الجهود المبذولة لتعزيز تمثيل النساء والفئات المهمشة داخل البرلمان والمجالس المنتخبة على المستويات المحلية والوطنية.

مبدأ المناصفة في المشاركة السياسية يتجاوز مجرد العدالة العددية، ليشمل جودة الأداء التشريعي والقدرة على التأثير في صنع القرار. فهو يقتضي أن يكون للنساء والفئات غير المهيمنة حضور فعلي يضمن التعبير عن مصالحهم وإدماج قضاياهم في صلب السياسات العامة. من هذا المنطلق، فإن أي إصلاح برلماني يجب أن يوازن بين التمثيل العددي (كم عدد النواب من كل فئة) وجودة الأداء التشريعي، بما يضمن أن المشاركة ليست شكلية بل ذات تأثير حقيقي على صياغة السياسات والتشريعات.

وقد أظهرت التجربة المغربية أن سياسات المناصفة، مثل اعتماد قوائم مخصصة للنساء والفئات الأقل تمثيلاً، ساهمت في تحسين تمثيلهم داخل البرلمان، إلا أن التحدي يكمن في ضمان استدامة هذا التمثيل وتجاوزه الشكلية إلى مشاركة حقيقية وفاعلة في العملية السياسية. كما يشير بعض الباحثين إلى أن العدالة التمثيلية يجب أن تتبنى منظورًا شموليًا يدمج البعد الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، إلى جانب البعد السياسي، لضمان مشاركة متكافئة وفاعلة لكل الفئات.


الإشكاليات البنيوية في التمثيل السياسي:

رغم الجهود المتواصلة لتطوير النظام الانتخابي المغربي وتعزيز المشاركة السياسية، تظل هناك إشكالية بنيوية أساسية تتمثل في محدودية تمثيل الفئات الاجتماعية الهامشية، وعلى رأسها الشباب والنساء والأحزاب الصغيرة. هذه الإشكالية ليست مجرد أثر عرضي للتشريع الانتخابي، بل تعكس خصائص منهجية هيكلية في تنظيم العملية السياسية تحد من قدرة البرلمان على أن يكون انعكاسًا حقيقيًا للتنوع الاجتماعي والسياسي في المجتمع.

1. ضعف تمثيل الشباب:
يعتبر الشباب الفئة الأكثر دينامية في المجتمع المغربي، إلا أن تمثيلهم داخل البرلمان يظل محدودًا مقارنة بنسبة مساهمتهم في السكان وصوت الناخبين. هذا النقص يؤدي إلى تراجع حساسية السياسات العامة لمتطلبات الجيل الجديد، ويحد من قدرتهم على التأثير في صنع القرار، مما يخلق فجوة بين المواطنين والمؤسسات السياسية.

2. تمثيل النساء والتوازن النوعي:
على الرغم من المبادرات التشريعية المخصصة لتعزيز تمثيل النساء (مثل نظام الحصص)، إلا أن مشاركة النساء في البرلمان لا تزال أقل من النسب المطلوبة لتحقيق المناصفة الفعلية. هذا التحدي يرتبط بالعوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر على قدرة المرأة على الوصول إلى المقاعد النيابية، ويشير إلى وجود إشكالية بنيوية تحتاج إلى معالجة شاملة تشمل التعليم السياسي، الدعم المؤسسي، وتعزيز المشاركة المدنية.

3. محدودية تأثير الأحزاب الصغيرة:
تمثيل الأحزاب الصغيرة في البرلمان محدود، ما يؤدي إلى هيمنة الأحزاب الكبرى على جدول الأعمال التشريعي، ويقلل من التنوع السياسي والحوار الديمقراطي. هذا التحدي البنيوي يعكس طبيعة النظام الانتخابي الحالي، الذي يميل إلى تكريس الأغلبية التقليدية على حساب التعددية، ويحد من قدرة الأحزاب الصغرى على تقديم بدائل سياسية فعالة.

4. انعكاسات على الشرعية الديمقراطية:
تؤدي هذه الإشكاليات البنيوية إلى خلق فجوة بين البرلمان والمجتمع، وهو ما قد يضعف الشرعية الديمقراطية للمؤسسة التشريعية ويحد من قدرة النظام على إشراك مختلف فئات المجتمع في صنع القرار. ومن منظور العلوم السياسية، يشير هذا النقص إلى أن العدالة التمثيلية ليست مسألة عددية فقط، بل تتعلق أيضًا بكيفية تصميم المؤسسات والآليات التي تمكن جميع الفئات من المشاركة الفاعلة والمستدامة.

5. مقترحات معالجة الإشكاليات البنيوية:
للتغلب على هذه الإشكاليات البنيوية، يمكن التفكير في عدة حلول عملية:
– إعادة تصميم دوائر انتخابية لضمان تمثيل أكثر توازنًا للفئات المهمشة.
– تعزيز اللوائح الحزبية للالتزام بنسبة تمثيل الشباب والنساء.
– إدماج آليات تشاركية خارج البرلمان، مثل المجالس المحلية والمنظمات المدنية، لضمان مشاركة أوسع في صناعة السياسات.
– تطوير برامج التثقيف السياسي والتدريب القيادي للشباب والنساء لتعزيز فرص وصولهم إلى البرلمان.

بهذه الطريقة، يصبح البرلمان أكثر تمثيلية، ويعزز من الشرعية الديمقراطية، ويتيح إشراك كافة الفئات الاجتماعية في عملية اتخاذ القرار، مع الحفاظ على الاستقرار المؤسسي والفعالية التشريعية.

السياق القانوني والمؤسسي في المغرب

تطور عدد المقاعد البرلمانية:
 شهد عدد مقاعد مجلس النواب عدة تعديلات منذ استقلال المغرب، بهدف تحقيق توازن بين التمثيلية الجغرافية والعدالة الاجتماعية. ومع ذلك، بقي عدد المقاعد الحالي ثابتًا منذ السنوات الأخيرة، ما أدى إلى نقاش حول تمثيل الشباب والنساء والأحزاب الصغرى.

التعديلات الانتخابية الأخيرة:
شهدت القوانين الانتخابية المغربية تعديلات تركزت على تعزيز التمثيلية النوعية وتقليص الانحياز الحزبي التقليدي، بما في ذلك تخصيص نسبة معينة للنساء ضمن اللوائح. ومع ذلك، ما زال هناك فجوات في تمثيل الفئات الصاعدة، ما دفع بعض الأحزاب إلى المطالبة بزيادة عدد المقاعد لتعويض هذا النقص.

الإشكاليات البنيوية:
رغم الجهود المبذولة، تبقى هناك إشكالية بنيوية تتمثل في محدودية تمثيل الشباب والنساء والأحزاب الصغيرة، وهو ما يطرح تحديًا للشرعية الديمقراطية والقدرة على إشراك مختلف فئات المجتمع في صنع القرار.

تحليل القرار السياسي

الأسباب المعلنة للرفض:
أكد وزير الداخلية أن أي زيادة في المقاعد ستزيد من الكلفة المالية للميزانية، وقد تؤدي إلى ارتباك تنظيمي وتشريعي قبل الانتخابات القادمة. واعتبر القرار أن المطالب الحالية تمثل “استهلاكًا سياسيًا” أكثر من كونها إصلاحًا حقيقيًا، مع الإشارة إلى حساسية التوقيت السياسي واستغلال القرار انتخابيًا.

الأبعاد الإيجابية للقرار:
– استقرار المنظومة الانتخابية: تجنب أي ارتباك قانوني قبل الاستحقاقات القادمة.
– ضبط النفقات العامة: منع تضاعف تكلفة التعويضات والأجور.
– ضمان جودة العمل التشريعي: التركيز على فعالية النواب الحاليين بدل زيادة العدد بلا فائدة ملموسة.

الأبعاد النقدية للقرار:
– استمرار ضعف التمثيل لبعض الفئات المهمة.
– احتمالية زيادة الشعور بالإقصاء السياسي بين الشباب والنساء والأحزاب الصغيرة.
– الحاجة إلى بدائل مبتكرة لتعزيز العدالة التمثيلية دون المساس بالاستقرار.

المقارنة الدولية

تظهر التجارب الدولية تنوعًا كبيرًا في كيفية الموازنة بين عدد النواب، التكلفة المالية، وتمثيل الفئات المهمشة:

– الدول الإسكندنافية: تعتمد على أنظمة تمثيلية نسبية توازن بين العدد المحدود للمقاعد وفعالية التمثيل، مع آليات لتعزيز مشاركة النساء والشباب.
– فرنسا وألمانيا: تعتمد على نظام مزدوج يجمع بين المقاعد الانتخابية التقليدية والمقاعد التعويضية لضمان التمثيلية النوعية.
– الولايات المتحدة: عدد النواب محدود، لكن يتم تعديل الدوائر الانتخابية لضمان تمثيل المناطق المختلفة.

يمكن للمغرب الاستفادة من هذه التجارب عبر آليات إعادة توزيع المقاعد أو تعزيز المشاركة خارج البرلمان دون الحاجة إلى زيادة عدد النواب بشكل مباشر.

تحليل بدائل لتعزيز التمثيلية

– إعادة توزيع المقاعد الحالية: مراجعة الدوائر الانتخابية وتعديل نسب التمثيل للفئات المهمشة.
– تعزيز المشاركة السياسية خارج البرلمان: دعم المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني.
– إصلاح القوانين الانتخابية: إدخال معايير لضمان تمثيل الشباب والنساء والأحزاب الصغيرة ضمن اللوائح الانتخابية.

تظل مسألة تعزيز التمثيلية البرلمانية من أبرز التحديات البنيوية في النظام السياسي المغربي، لا سيما في ظل محدودية تمثيل الشباب والنساء والأحزاب الصغيرة. وللتغلب على هذه الإشكاليات، يمكن التفكير في بدائل عملية ومتكاملة، تتراوح بين تعديل الهياكل الانتخابية القائمة وتعزيز المشاركة السياسية غير البرلمانية، وصولاً إلى إصلاح شامل للقوانين الانتخابية.

1. إعادة توزيع المقاعد الحالية

تعد مراجعة الدوائر الانتخابية وإعادة توزيع المقاعد داخل البرلمان أحد أبرز الحلول لتعزيز التمثيل العادل للفئات المهمشة. ويمكن تطبيق أساليب متعددة، مثل:

•        تحديد نسب تمثيل محددة لكل فئة، لضمان مشاركة فعلية للشباب والنساء.

•        إعادة تقييم حجم الدوائر الانتخابية بحيث تتناسب مع كثافة السكان ونسب التمثيل لكل فئة، مما يقلل من التفاوت في التأثير الانتخابي بين المناطق المختلفة.

•        الاستفادة من التجارب الدولية، مثل التجربة النرويجية والسويدية، التي توظف آليات تمثيل نسبي تصحيحي لضمان مشاركة فعالة للفئات المهمشة.

2. تعزيز المشاركة السياسية خارج البرلمان

لا يكفي التركيز فقط على المقاعد البرلمانية لتحقيق تمثيلية شاملة، بل يجب دعم الآليات التشاركية غير البرلمانية. من أبرز هذه الإجراءات:

•        تعزيز المجالس المحلية والجهوية وتمكينها من اتخاذ قرارات ذات أثر ملموس، ما يتيح مشاركة أوسع للفئات المختلفة في الحياة السياسية.

•        دعم منظمات المجتمع المدني التي تتيح للشباب والنساء والأحزاب الصغيرة منصة للتعبير عن مطالبها والمساهمة في صياغة السياسات.

•        إدماج هذه الفئات في لجان استشارية متخصصة، لتعزيز التفاعل بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني، بما يرفع من شرعية القرارات السياسية ويعزز من ثقافة المشاركة الديمقراطية.

3. إصلاح القوانين الانتخابية

تعد القوانين الانتخابية العمود الفقري لضمان العدالة التمثيلية. ومن بين الإصلاحات الممكنة:

•        وضع معايير واضحة للتمثيل النسبي للفئات المهمشة ضمن اللوائح الانتخابية، بما يضمن الحد الأدنى من المقاعد للشباب والنساء.

•        تبني أنظمة تصويت جديدة، مثل نظام القوائم النسبية المعدلة أو المقترحات المختلطة، التي تجمع بين التمثيل الجغرافي والنوعي.

•        تعزيز معايير الشفافية والمساءلة في عملية ترشيح اللوائح، لضمان عدم تهميش الأحزاب الصغيرة أو الفئات الاجتماعية الهامشية.

•        الاستفادة من التجارب المقارنة، مثل ألمانيا وفرنسا، التي تجمع بين المقاعد الانتخابية التقليدية والمقاعد التعويضية لضمان التمثيل النوعي والعدالة الاجتماعية في البرلمان.

4. التفاعل بين البدائل

لا يكفي تطبيق أي بديل بمفرده، بل يجب تبني مقاربة متكاملة تجمع بين إعادة توزيع المقاعد، تعزيز المشاركة خارج البرلمان، وإصلاح القوانين الانتخابية. هذا النهج المتعدد المستويات يتيح تحقيق تمثيلية أوسع دون الإضرار بالاستقرار المؤسسي، ويعزز الشرعية الديمقراطية للمؤسسات التشريعية.

الاستنتاجات والتوصيات

إن قرار وزير الداخلية يعكس مقاربة واقعية تجمع بين ضبط النفقات واستقرار المنظومة الانتخابية، إلا أنه يترك تساؤلات حول ضعف التمثيل لبعض الفئات.  ولتحقيق إصلاح سياسي مستدام، ينبغي:

1. تبني آليات مبتكرة للتمثيلية دون المساس بالاستقرار المؤسسي.
2. تعزيز شفافية العملية الانتخابية وربطها بمبادئ العدالة والمناصفة.
3. دراسة تجارب دولية قابلة للتطبيق في السياق المغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News