رأي

هكذا ترسم الحكومة مسار إصلاح الصحة بثبات…

هكذا ترسم الحكومة مسار إصلاح الصحة بثبات…

لا أحد يمكنه أن ينكر أن الرهان على إصلاح قطاع الصحة، الذي دأبت الأحزاب السياسية على التهرب منه، يعكس شجاعة سياسية ومسؤولية وطنية عالية.

خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تحقيق تحول حقيقي في هذا القطاع لا يتم خلال ولاية حكومية واحدة، بل هو مسار طويل قد يمتد لعقد من الزمن أو أكثر، كما تؤكد ذلك معظم التجارب المقارنة.

خصوصا إن كان الوضع يتعلق بإرث ثقيل،

إرث ناجم عن تراكمات سلبية ومعقدة،

بسبب سنوات طويلة من التدبير السيئ والإصلاحات الترقيعية.

لهذا كان الرهان على الارتقاء بالمنظومة الصحية عبر إصلاحات جذرية وعميقة، بعيدا عن منطق الإصلاحات السطحية، التي لم تقدم أي نتائج تُذكر في السابق.

فكانت البداية بإخراج القانون الإطار المتعلق بالمنظومة الصحية الوطنية، لوضع الأرضية الصلبة لجميع الإصلاحات القادمة، وإعادة تشكيل ملامح المنظومة الصحية برؤية متجددة وطموحة.

ولتنزيل هذه الرؤية الإصلاحية، تم رفع ميزانية الصحة من 19.7 مليار درهم سنة 2021، إلى 32.6 مليار درهم سنة 2025، بزيادة غير مسبوقة بلغت 65.48%.

قفزة هامة ستنعكس بشكل مباشر على تأهيل العرض الصحي، وتعزيز البنيات التحتية الصحية.

وهذا ما كان..

فقد تم إطلاق خطة طموحة لتعميم المستشفيات الجامعية على مختلف جهات المملكة، حتى تتوفر كل جهة على مستشفى جامعي قريب يضمن الرعاية الصحية المتخصصة.

وفي هذا السياق، تم تحقيق خطوات هامة

المستشفى الجامعي بأكادير بلغ مراحله النهائية،

الأشغال بالعيون والداخلة قطعت أشواطا متقدمة،

في حين تم الشروع فعليا في بناء المستشفى الجامعي بكلميم، وبني ملال، والراشيدية،

فضلا عن قرب نهاية الأشغال بالمستشفى الجامعي ابن سينا، الذي يعد معلمة صحية بمواصفات عالمية.

وبالموازاة مع ذلك، كان الرهان على تأهيل المراكز الصحية للقرب، أو ما يُعرف “بصبيطار الحومة”.

فتم إطلاق برنامج غير مسبوق لتأهيل 1400 مركز صحي من الجيل الجديد، مزودة بأحدث التجهيزات الطبية والرقمية، وأطقم طبية وتمريضية متخصصة، بهدف تعزيز العلاج الأولي، وتقليص الضغط عن المستشفيات العمومية.

لكن الحكومة كانت واعية أن أي إصلاح حقيقي يقتضي معالجة معضلة الموارد البشرية ونزيف هجرة الأطباء.

وهذا ما كان..

فقد تم اتخاذ إجراءات هامة، في مقدمتها الزيادة في رواتب الأطباء بـ 3800 درهم شهريا، والرفع من تعويضات الأطر الإدارية والتقنية إلى 1400 درهم، من أجل تحفيز وتثمين دور العاملين في القطاع الصحي.

ثم تلا ذلك إصدار قانون الوظيفة الصحية، الذي أرسى نظاما جديدا للأجور، لتصبح بذلك تركيبة الأجور في القطاع الصحي تتضمن جزئين رئيسيين: جزء ثابت يشمل المرتب والتعويضات المقررة، وجزء متغير يعتمد على حجم الأعمال المنجزة.

أما الهدف الأكبر، فكان يتمثل في رفع عدد مهنيي الصحة إلى العتبة الموصى بها من قبل منظمة الصحة العالمية.

وهذا ما كان..

فلتحقيق هذا الطموح، تم تعميم كليات الطب بجميع جهات المملكة، بعد إحداث ثلاث كليات جديدة للطب والصيدلة، وثلاث مراكز استشفائية جامعية بالرشيدية، وبني ملال، وكلميم.

مع تقليص مدة التكوين الطبي من سبع سنوات إلى ست سنوات.

ورفع الطاقة الاستيعابية للمقاعد البيداغوجية في كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان بنسبة 88%، وفي المعاهد العليا للمهن التمريضية وتقنيات الصحة بنسبة 75%، مقارنة مع الوضعية التي كانت عليها قبل سنة 2021.

وقد بدأت نتائج هذه السياسات تظهر فعليا،

حيث ارتفع معدل الأطباء من 1.7 لكل 1000 نسمة إلى 2.5، مع طموح بلوغ 4.5 في أفق 2030، وهو معيار التنمية المستدامة.

ولأن الإصلاح لا يكتمل دون القطع مع التدبير البيروقراطي للقطاع، فقد حرصت الحكومة على إرساء حكامة جديدة للمنظومة الصحية، من خلال السعي لمأسسة مجموعة من الاختصاصات، بل وتفويض تدبير الاستثمار والتكوين والتوظيف للجهات.

وهذا ما كان..

فقد تم إحداث “المجموعات الصحية الترابية”، التي ستنهي مع منطق التدبير المركزي للقطاع الصحي.

حيث تتضمن هذه المجموعات مختلف المرافق الصحية، من المستشفيات الجامعية والجهوية والإقليمية، وصولا إلى المراكز الصحية للقرب، لتشتغل وفق برنامج طبي مستقل عن التدبير المركزي في الرباط.

إنها بالفعل ثورة هادئة في تدبير المنظومة الصحية.

خاصة إذا علمنا أن هذه المجموعات ستتولى صلاحيات الاستثمار وفق أولويات كل جهة، كما ستتولى تدبير الموارد البشرية، والتكوين، والتوظيف، على أساس حاجياتها الواقعية.

هذا ليس مجرد إعلان نوايا،

بل هو مسار عملي انطلق فعلا من جهة طنجة–تطوان–الحسيمة في مرحلته التجريبية، في أفق تعميم التجربة على باقي الجهات.

ولتعزيز حكامة القطاع، تم إحداث ثلاث هيئات جديدة:

أولا: الهيئة العليا للصحة، كهيئة مستقلة لتقييم السياسات الصحية وضمان استمرارية الدولة في المجال.

ثانيا: الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية، لضمان وفرة الأدوية وجودتها.

ثالثا: الوكالة المغربية للدم ومشتقاته، لضمان مخزون كاف للمستشفيات.

كل هذه الإصلاحات تترافق مع استفادة 11 مليون مغربي، يمثلون 4 ملايين أسرة، من ضمن 9.7 مليون أسرة مغربية، من التغطية الصحية ليستفيدوا من نفس سلة العلاجات التي يستفيد منها الموظفون والأجراء.

لكن بالمجان..

ومن دون أداء أي مساهمات.

فالحكومة ستتحمل أداء الاشتراكات عنهم بميزانية ضخمة تقارب العشر ملايير درهم سنويا.

هذا مجهود استثنائي وغير مسبوق ببلادنا.

مجهود سيغير وجه المنظومة الصحية من دون شك في المستقبل القريب، وسيجعل خدمات المستشفى العمومي تضاهي خدمات القطاع الخاص.

لكن مسار الإصلاح طويل ومعقد بفعل تراكمات الماضي وإخفاقاته.

مسار شاق،

مليء بالعراقيل،

مثقل بإرث الماضي،

وبعقليات ما زالت أسيرة التدبير البيروقراطي القديم.

وفي هذا الطريق، من الطبيعي أن تظهر بعض الهفوات، أو تقع بعض العثرات.

ومن الطبيعي أيضا أن يخرج المتربصون وتجار الأزمات.

ومن البديهي أن يستغلها سماسرة الانتخابات،

ليتخذوا من هذه العثرات وقودا للتهويل والافتراءات.

لكن الفرق الجوهري اليوم، هو أن الحكومة لا تتجاهل هذه الانزلاقات.

ولا تتعامل معها بمنطق المناورات و المراوغات،

بل تواجهها بسرعة، وتتعامل معها بالصرامة والنجاعة اللازمة، وبالحضور الميداني الفعلي.

وهذا بالضبط ما يكرس الثقة في مسار الإصلاحات.

ويؤكد أن ورش الصحة دخل مرحلة جديدة لا رجعة فيها.

مرحلة انطلقت على السكة الصحيحة، وتخطّت منطق الشعارات.

مرحلة وضعت أسسها الكبرى بوضوح، ورُسمت معالمها بثبات….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News