رأي

“ملقى الصالحين” 2025.. أبدعت إيتوسى في الإحتفاء بمولد إمام الأنبياء

“ملقى الصالحين” 2025.. أبدعت إيتوسى في الإحتفاء بمولد إمام الأنبياء

فيما هو موثق في كتب المحققين، وما تتناقله الذاكرة الشعبية بتواتر واطراد، يجتمع بـ”آسا” كل سنة في الثاني عشر من ربيع الأوّل أولياء الله الصالحين وأهل الولاية من السودان وتلمسان وأغمات وغيرها، لإحياء ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم ذكرا وقرآنا وابتهالا، إنشادا وقراءة للأمداح النبوية المأثورة المتواترة المتوارثة أجيالا.. ومن هنا جاءت التسمية: “ملگى الصالحين”.

سحرتني سابقا “آسا” بكرم من صادفت من ساكنتها وتواضع أبناء “لخيام” المعلومة وأصحاب السلطة والمنزلة والرفعة مع ضيوف الزاوية، وسحبتني عبارة “ضيف الملگى: الزاوية الشرقاوية” من أذني، فأنا شرقاوية الأصل ومن أبناء “بوعبيد الشرقي” الذين يظلهم بسلهامه، فلم أقو على مقاومة إغراء الحضور وتلبية الدعوة.. واسمحوا لي أن أتباهى بزهو فالنسخة هذه السنة كانت مميزة، وما أسعد حظ من حضر!

آسا.. بلدة أحسنت فن الارتقاء بالذائقة

منذ طفولتنا ونحن نسمع عن “إيتوسى” وشدة بأسهم، عرفناهم  مقاتلين أشاوس لا يشق لهم غبار، وربما لهذا اصطفاهم الله لحراسة الزاوية والذود عنها، لكنني لم أتخيل أن تكون قلوبهم بتلك الرقة والدعة، قلوب بمناضد مخملية ومساند مريحة، تقري الضيف وترحب بزوار الزاوية فتحملهم من على الأرض وتضعهم داخل أعينها، فللقوم طاقة تشارك رهيبة، وذاك ما لمسناه على امتداد الموسم الديني السنوي، “ملگى الصالحين، لهذه البلدة التي تنتشر فيها أضرحة وقبور أولياء الله الصالحين.. 366 وليا بالتمام والكمال.

بدأ الموسم الديني البهيج ليلة المولد النبوي بأمسية مديح وسماع، تقاطرت الجميع إلى رحاب الزاوية حيث بدا المشهد أخاذا يحبس الأنفاس، فقد وقفت زاوية آسا بشموخ وأنفة وتداخلت حولها الأضواء الملونة مع سعف النخل الخضراء والاعلام الوطنية الحمراء لتصنع لوحة فنية آسرة..

اعتلى المنشدون و”مداحة” النبي المنصة، وجلس كبار السن والمقام في المقدمة، ثم جلسنا خلفهم وارتفعت أصوات المديح النبوي الاحترافي بفخامة وأبهة، توالت الفرق الموسيقية، لحنا كان يسلمنا للحن، يتبادلون الإيقاع في تناغم مدهش، ونحن في غمرة الفرح تائهون، سعداء بهذا السخاء الفني ليلة ذكرى مولد النبي عليه السلام، لاسيما من كان يجلس منا على حافة نكد الحياة وصخبها في المدن الكبيرة.

نمنا تلك الليلة في ضيافة مروءة “إيتوسى” ونحن نحتضن ملابس العيد وكل أحلامنا وأمانينا، على أمل الاستيقاظ باكرا لحضور طقوس تقديم “النحيرة” إلى الزاوية وطلابها وضيوفها، ففي كل سنة، وحسب الدور، تقدم قبيلة من قبائل “أيتوسى” هذه النحيرة يوم ذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام إكراما للزوار وتوسعة على طلبة الزاوية.

وفي صباح يوم العيد، حج السكان والمنتخبون والأعيان إلى باحة الزاوية، ارتفع السلام المطول بين الجمع الذي فرقته المشاغل والمسؤوليات والمسافات عن بعضه البعض وجمعته مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، تقدم الصغار السلام على الكبار، قبلت الرؤوس ووضعت الأيادي يادي على العواتف كتحية، علا الدعاء الصالح وأرخت أجنحة السلم بظلالها على الجميع..

وبعد شعيرة النحر، افتتحت أروقة دينية مختلفة، رواق الأعلام الدينية المحلية، رواق السيرة النبوية، رواق الزاوية الشرقاوية، ثم ألقي درس ديني ماتع.

أما مساء عيد المولد، فكان الجميع على موعد مع ليلة أخرى من ليالي المديح، فرشت الخيام بالزرابي ونثرت عليها الوسائد المريحة، وفي كل زاوية من زوايا المكان وضعت مكيفات الهواء، جلس الكبار قبالة المنصة واتخذنا مجلسنا خلفهم، ثم صعدت فرقة المديح النبوي ورفعت القيود عن العفوية..

استهل الأنعاش الفني ليلتها بفرقة الإمام الرفاعي الجبلية، تلتها مجموعة مداح الرسول “محمد بعيا”، الذي دخل بدون “إحم” ولا دستور الى الوجدان وتسكع فيه بأريحية، أشعل فتيل الحماس وارتفعت الهتافات والتعليقات التي لا تخلو من الود، وللرجل قبول غير طبيعي لدى عامة الناس، فك براغي الرصانة والرزانة وسحب المنسحقين تحت كومة البروتوكولات والالتزامات إلى عمق الإيقاع، تجاوبت معه النسوة فصعدن إلى أعلى قمة مشاعر الفرح ليلوين ألسنتهن ثم يطلقن زوابع صوتية رنانة، وقبل أن ينفض الجمع دعي الحاضرون ل “المعروف”.. “معروف الملگى”، عشاء بدعوة مفتوحة.

اليوم الثالث بدأ بعملية الاعذار التي استفاد منها صغار الأسر المعوزة، قبل الشروع في نهائي المسابقة الوطنية والجهوية في حفظ القرآن وتجويده، حيث وقفت أمام لجنة متخصصة أصوات ملائكية خطفت الأضواء وعطرت الأجواء ونالت استحسان الحاضرين.

وفي المساء اصطف أبناء “آسا” من وجهاء وأعيان وممثلي الساكنة رسميا وقانونيا، لاستقبال وفود القبائل الصحراوية المختلفة التي شدت الرحال إلى هذه البلدة الطيبة، سقطت كل الحواجز ورفعت الكلفة وتبخر كل سوء فهم أو خلاف، ساد الود والتقدير والاحترام والتسامح وعم السلام، فالمناسبة عظيمة والبلدة كريمة لها مكانتها ودورها في تقوية أواصر المحبة وتعزيز روح المودة والأخوة.

بعد استقبالهم والترحيب بهم، دعيت الوفود الصحراوية لوصلة مديحية فاخرة، قبل توجههم إلى منزل عائلة زعيم “إيتوسى”، الذي كان ينوب عن كافة ساكنة “آسا” في استضافة ضيوف الزاوية..

المكان، كان بيت العائلة الكبير، فيلا بمقاس فيلات الأعيان والوجهاء بالصحراء، تداعت إليها جموع غفيرة، أفراد وفود القبائل الصحراوية، جماهير الساكنة باختلاف فئاتها العمرية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، منتخبون ومسؤولون وصحفيون وعابرو سبيل، غصت جنبات البيت العائلي بضيوف الزاوية، تجند لخدمتهم الكبير والصغير، وتطوع الكثيرون ممن تنكروا لجاههم ورتبهم الاجتماعية الفاخرة ورتبهم السامية عن طيب خاطر وبابتسامة.. الكل كان بخدمة ضيوف “الملگى”، والحفاوة كانت مذهلة.

في اليوم الموالي، خصص الصباح لإلقاء مداخلات علمية قيمة وتوقيع كتب، قبل الدخول في غمار مسابقة في السيرة النبوية لفائدة الأطفال والناشئة، ثم البث في نتائج مسابقة إقليمية في المخطوطات والوثائق، أما المساء فكان مسك الختام.. وأي ختام!

قبل أن يتوغل الليل في حلكة ظلامه، تزين الشارع المؤدي إلى ساحة محمد السادس بأبهى حلله، ووقفت على جنباته فرق الخيل والهجن، لحراسة مسيرة قرآنية مهيبة شارك فيها أزيد من 500 طالب وطالبة من مختلف المدارس العتيقة الجهوية والوطنية بتنظيم محكم.. “موكب” أهل الله”.

غصت الساحة بالساكنة، وتوافد الموكب الروحاني بخطوات ثابتة جد مدروسة، مشكلين لوحات فنية بشرية ساحرة.. جلسوا بترتيب وأدب وبكل هدوء قبالة المنصة، ثم ارتفعت سحب بخور “تيدكت” ووزع الماء وبعضا مما يعرف من طعام البلدة بسخاء على الحاضرين، وانطلق الحفل الختامي..

قراءات خاشعة، أناشيد وأذكار، أوبريت تؤرخ للسيرة النبوية، وصلات من المديح والسماع لفرق ومجموعات محلية، وطنية وصوفية، لوحات استعراضية وابتهالات دينية.. خشوع وسلم وأمان وتعايش وتسامح، وأناس يثبتون أمامنا حرصهم على حفظ تميزهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News