خمري ينتقد انزياح “لوموند” الفرنسية وخطأها في حق المغاربة

في يوم الإثنين 25 غشت 2025، نشرت جريدة لوموند الفرنسية، جزءا مما أسمته “تحقيقا” يهم الملكية في المغرب، حمل عنوان: “أجواء نهاية عهد محمد السادس”. المادة المنشورة حتى لا نقول تحقيقا، والتي تداولتها عدد من وسائل الإعلام، تناولت الحالة الصحية لجلالة الملك والتي حاولت أن تهوّل منها، ومسألة تحضير ولي العهد مولاي الحسن للمُلك، وما وصفته بصراع أجنحة النخبة الحاكمة في هذه الفترة الانتقالية على حد تعبيرها، وتحدثت عن تضارب المصالح مجسدا في رئيس الحكومة، وعن تفاصيل أخرى تناولتها بطريقة أقل ما يقال عنها أنها مُوَجَّهة وغير موضوعية، تنمّ عن إرادة واضحة في ضرب صورة أم المؤسسات في المغرب، ألا وهي المؤسسة الملكية.
أهم ملاحظة يثيرها هذا الجزء الذي نشرته جريدة لوموند الفرنسية، تتمثل في كونه يخرق بشكل سافر القواعد المتعارف عليها في التحقيق الصحفي، وما يقوم عليه من ضوابط متعارف عليها مهنيا وعالميا. ذلك أن ما سُمِّي بالتحقيق الصحفي، افتقد إلى التوازن، وحاول أن يرسم صورة مقلقة عن مستقبل الحكم في المغرب، محاولا المس برموزه السيادية.
فالحالة الصحية لجلالة الملك محمد السادس معروفة لدى كل المغاربة، من المواطن/ة العادي إلى أكبر مسؤول، وكان القصر الملكي في كل مناسبة تقتضي الإخبار، يخرج ببلاغات حول الوضع الصحي لجلالته بكل وضوح وشفافية. ثم ما الذي قد يحول دون قيام جلالة الملك بوظائفه الرئاسية والدينية، والمُؤطرة بالدستور، باعتبار جلالته رئيسا للدولة وممثلها الأسمى ورمز وحدة الأمة المغربية، وباعتباره كذلك أميرا للمؤمنين تربطه بالمغاربة بيعة مقدسة.
الكلام المنشور عن صحة جلالة الملك في الصحيفة الفرنسية حاول أن ينسج صورة مقلقة عن مستقبل الحكم في المغرب، وبأن هذا الوضع أثر على حضور جلالته وممارسته لسلطه، وكأن صاحبا المقال في كوكب آخر، والحال أن جلالة الملك كان حاضرا بقوة في خطبه وقراراته وفي التعيينات التي يقوم بها في مناسبات مختلفة، ولا حاجة للتذكير هنا بمواضيع هذه القرارات ومناسباتها، والتي همت قطاعات ومجالات متعددة، والتعيينات التي شملت مختلف المناصب التي يتيح الدستور لجلالته التعيين فيه.
أضف إلى ذلك أن خطب جلالته في المناسبات الوطنية غالبا ما أعلن فيها عن مبادرات ومشاريع وبرامج واستراتيجيات كانت محط تنفيذ من قبل المؤسسات الرسمية المعنية، وعلى رأسها الحكومة والبرلمان.
ثم إن وضع جلالة الملك كرئيس للدولة يتمتع بصلاحيات سيادية واستراتيجية لا تعني الحضور اليومي، لأن هناك مؤسسات رسمية أخرى دستورية تسهر على وضع وتنفيذ السياسات العمومية وتتبعها وتقييمها، وعلى رأسها البرلمان والحكومة الحائزان على شرعية انتخابية تتجدد في كل محطة انتخابية، فضلا عن دور الجماعات الترابية من جماعات ومجالس عمالات وأقاليم وجهات.
تُعلّمنا أدبيات وأخلاقيات مهنة الصحافة، بأن التحقيق الصحفي؛ الذي هو من الأجناس الراقية، يقوم على البرهنة والتحقّق والتقصي والتوازن والموضوعية والحياد، وهو ما افتقده منشور لوموند الفرنسية بحق ملك المغرب. لقد حاول صاحبا المقال بائسين الادعاء بأن الحالة الصحية لجلالة الملك، تُنبئ بنهاية عهد، وتُدخِل المغرب في مرحلة انتقالية سمتها الشك وعدم اليقين، وتم ربط ذلك بتحضير ولي العهد مولاي الحسن للحكم، بطريقة تحاول زرع الريبة والتوجس حول هذه المرحلة.
لقد نسي صاحبا المنشور الصحفي، أو تناسيا عن عمد، أن الملكية هي مؤسسة، بكل ما يحمله مفهوم المؤسسة من معان وحمولات، نعم إنها مؤسسة دستورية تحظى بالمصداقية والاستمرارية، بفضل ما تحوزه من شرعيات تاريخية ودينية وشعبية.
بل إن مسألة انتقال عرش المغرب وحقوقه الدستورية، مُؤطَّرة بالدستور نفسه، الذي يؤكد أنه انتقال بالوراثة إلى الولد الذكر الأكبر سنا من ذرية جلالة الملك محمد السادس، ثم إلى ابنه الأكبر سنا، وهكذا ما تعاقبوا، ما عدا إذا عَيّن الملك قيد حياته خلفا له ولدا آخر من أبنائه غير الولد الأكبر سنا…
وقد توقع الدستور أيضا في فصله 43 إذا كان الملك غير بالغ سن الرشد، أي إذا قلّ عمره عن ثمانية عشر سنة، فنص على مجلس الوصاية الذي يمارس اختصاصات العرش وحقوقه الدستورية، باستثناء طبعا ما يتعلق منها بمراجعة الدستور، إذ يعمل كهيئة استشارية إلى جانب جلالة الملك حتى يدرك تمام السنة العشرين من عمره.
فليطمئن صاحبا المنشور المسمى تحقيقا، في بلد له مؤسساته، ولأن انتقال عرش المغرب مؤطر بدستور حظي بمصادقة جميع المغاربة. لذلك حتى وإن لم يبلغ الملك سن الرشد، فهناك مجلس إلى جانب جلالته، يقدم له المشورة برئاسة رئيس المحكمة الدستورية، وعضوية كل رؤساء المـؤسسات السيادية، فضلا عن شخصيات أخرى يعينهم الملك بمحض اختياره.
نحن أمام ملكية دستورية لها قواعدها وضوابطها وحتى أعرافها، تشكل أساس نظام سياسي ودستوري له مقوماته ومبادئه وثوابته، رضيت بها الأمة المغربية وتمسكت بها منذ قرون خلت، لأنه حتى قبل الدستور بايع المغاربة ملوكهم على السمع والطاعة في المنشط والمكره.
أن يكون هناك تحضير لولي العهد للحكم، فهذه مسألة يدركها ويتابعها جميع المغاربة، مواطنون عاديون قبل المسؤولين، وفيها المعلن عنه وغير المعلن، لأن للمُلْك في المغرب قواعد وضوابط وأعراف، وهي أمور سيادية لا يمكن تقاسمها كلها.
أما الأمور العادية لولي العهد مولاي الحسن، فهي ليست سرا، لأن كل المغاربة يعرفون الشهادات التي حصل عليها والتخصص الذي يدرس فيه، والترقية العسكرية التي وشحه بها جلالة الملك بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، وهي أمور تم نشرها إعلاميا. وقد شاهده المغاربة عبر وسائل الإعلام وهو يستقبل رئيس الصين العظمى بتكليف من جلالة الملك، كما شاهدوه يحضر ويقوم بتكليفات رسمية، آخرها استقباله بالقصر الملكي بتطوان أطفال فلسطين المقدسيين المشاركين في المخيم الصيفي، الذي تنظمه كل عام وكالة بيت مال القدس الشريف، وأخذ صورة معهم ذاع صيتها في وسائل الإعلام.
الحديث في صحيفة لوموند الفرنسية عن صراع بين أجنحة النخبة في الحكم، يحمل في طياته بذور تشكيك، وزرع الريبة، وهي محاولات تلتقي في أهدافها مع ما تنشره صحافة النظام العسكري في الجزائر في رغبة يائسة للنيل من استقرار المغرب.
كذلك حديث المنشور الصحفي عن منحى احتكاري لقوى بعينها على الاقتصاد المغربي، أو وجود تضارب في المصالح في شخص رئيس الحكومة، افتقد إلى أدلة وبراهين واضحة، ولم يكشف عن خيوط أو “حقائق” يجهلها الرأي العام المغربي.
وحتى القول بوجود اختلالات مثلا، ليس بالجديد، لأن السياسات يمكن أن تتعرض للنقد، ويمكن أن يشوبها خلل، وهذا باعتراف جلالة الملك رئيس الدولة في خطبه الأخيرة، حيث تحدث عن مغرب يسير بسرعتين، وقبل ذلك تحدث جلالته عن تفاوتات مجالية يجب تصحيحها بتحقيق عدالة مجالية.. فما الذي يحاول صاحبا المنشور إقناعنا به؟ لقد علمتنا أبجديات الصحافة، وقواعد هذه المهنة وأخلاقياتها، أن المادة الصحفية وبالأحرى التحقيق الصحفي، يجب أن يقوم على التوازن وأن يسعى إلى الموضوعية ويلتزم الحياد، ولعل ما لم تذكره المادة المنشورة بحق المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس، يحتاج إلى أكثر من تحقيق وأكثر من تقرير. فحصيلة الإنجازات في عهد الملك محمد السادس، برغم الإكراهات؛ سواء على مستوى تعزيز تنافسية وقوة الاقتصاد المغربي، أو في إرساء دعائم الدولة الاجتماعية، أو في المشاريع المهيكلة الكبرى (ميناء طنجة المتوسط، القطار فائق السرعة، ميناء الداخلة الأطلسي، تنمية الأقاليم الجنوبية، مشاريع الطاقة المتجددة…)، أو في تعزيز حضور المغرب دوليا وإقليما وقاريا في إفريقيا، أو الحضور الدبلوماسي المُشرّف للمغرب في الساحة الدولية… كلها إنجازات تكتب بمداد الفخر والشموخ، عبقرية دولة-أمة اسمها المملكة المغربية، أبانت في الظروف العادية كما الاستثنائية عن قدرة خارقة في البناء ومواجهة الأزمات، وتجاوزت بما لا يحتاج للمقارنة، أشباه دول ما زالت غارقة في وحل التخلف، واستعباد شعوبها، رغم الموارد الطبيعية التي حباها الله بها.
رئيس مختبر القانون العام وحقوق الإنسان بكلية الحقوق بالمحمدية-