رأي

سعد العلمي في “حلم في بطن الحوت”.. أو حين تعجن السياسة الأديب

سعد العلمي في “حلم في بطن الحوت”.. أو حين تعجن السياسة الأديب

عدت في اليومين الأخيرين إلى مجموعة القصص القصيرة “الحلم في بطن الحوت” لسعد العلمي، واستأنفت قراءة بعضٍ منها، فلم أدرِ: هل أهنّئ الكاتب على عودته إلى الأدب وإلى القصة تحديدًا، أم أهنّئ الأدب نفسه على استرجاع سعد العلمي إليه؟
ولكني، وقد ملكت عليّ هذه المجموعة وقتي واستبدّت بملكاتي كلها، أميل الآن إلى القول بأن القراء هم الجديرون بالتهنئة، لأن عودة سعد العلمي إلى الأدب بعد انقطاع طويل أهدتهم مجموعة قصصية رائعة تستحق أن تُقرأ، وأن تُقرأ بتمعن ورويّة.

قرأت، كما قلت، بعضًا من هذه القصص، فوجدتها قصصًا دسمة محكمة البناء، مليئة بالمعاني العميقة التي تشحذ الفكر والخيال، متشابكة وذات شجون. هي ليست قصيرة، بل طويلة، كأنها ثلاثية أو خماسية روائية.
وعلى قصرها المادي، فقد أسرتني، وأثارت لديّ أسئلة وأفكارًا جديدة:

لغة الكاتب جزلة نقية متخلّصة من التبذل والابتذال، وأسلوبه رصين واضح، بعيد عن التعقيد، بريء من التصنّع والتكلّف.
وهي أيضًا قصص لم يبتغِ بها المؤلف تقديم الجمال الفني والأدبي فحسب لجمهوره، بل أراد بها أن تكون حاملة لرسائل سياسية مبطّنة، وناقلة لأفكار عميقة مغلّفة بحرفية عالية.

لا غرو أن سعد العلمي، حين يقصّ، يستطيع أن يتفوق ويتفرّد، وأن يسكّ لنفسه منهجه الخاص في التبليغ القصصي.
فهو أديب وكاتب، ولكنه كان أيضًا وزيرًا، وسفيرًا، وبرلمانيًا سابقًا، ومريدًا مخلصًا لرواد الحركة الوطنية المغربية الأوائل، وهذا ما يضفي على أعماله بعدًا آخر.

وبالتالي، لا أظن إلا أن القارئ سيشقى شقاءً سعيدًا وهو يُعمل عقله ليفكّ رموز القصص القصيرة لسعد العلمي.
بعض القصص عنده لا تتعدى صفحة أو صفحتين، بل منها ما لا يتجاوز سطرين فقط.
هي “قصص قصيرة جدًا” كما أسماها، وقد نعتبرها نحن إشراقات أو ومضات لمعت في أعماق النفس، أو هي “شذرات قصصية” كما فضّل أن يطلق عليها مقدّم المجموعة، الناقد نجيب العوفي، لكن سعدًا يعتدّ بها أيما اعتداد، وقرأها علينا في معرض الكتاب باعتبارها قصصًا مكتملة الأركان مستوفية الوصف، وأنا أقرّه وأوافقه على ذلك موافقة تامة.

ولا شك عندي أنك ستفعل أنت أيضًا، لأنك عندما ستقرأها، ستحسّ كأنما قد بثّك الكاتب فيضًا من المشاعر والأحاسيس والهواجس والمعاني والدلالات.
الإشراقة من سعد، والقصة ستتخلق منك أنت داخل سراديب خيالك، وبالتالي ستشعر من خلال قراءتك كما لو أن خيال الكاتب يتفاعل مع خيالك.

إن سعدًا، وقد جازف بالومضة القصصية، ليبرهن على علوّ كعبه، وعلى أنه لا يخشى أن يقتفي أثر كبار الروائيين الذين كتبوا القصة القصيرة جدًا، كإرنست همنغواي، ألبير كامو، كافكا… وهذا ما نستشفه من ثقته الفائقة بقدرته على التكثيف والرمزية والتلميح واجتراح النهايات المفتوحة.

حين نعود لتواريخ هذه القصص نجد أن أغلبها تعود لمرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
وبهذا المعنى، نحن بصدد القاصّ سعد العلمي في تلك الفترة الحرجة من تاريخ المغرب، فترة الشباب.
وهنا نطرح السؤال المشروع: لماذا جمّد سعد قريحته القصصية واستغرق كل الاستغراق في السياسة، ولم يُفرج عن قصصه إلا اليوم؟
إنه سؤال مفتوح، كما أغلب نهايات قصص مجموعته.

لكن العجيب والمبهر في هذه القصص، أنها تطلق حريتنا في التأويل إطلاقًا.
كل منّا يستطيع أن يمنحها معنى وحياة جديدة حين يقرأها.
وهذه التقنية في الكتابة لا يملكها، ولا يجرؤ عليها، إلا المتمكّنون المبدعون في فنّ الأدب، بل لا يستطيعها إلا الكتّاب النادرون الذين يدركون أن القارئ لا يقرأ لهم فحسب، بل يقرأ بين السطور، ويشعر بوجودهم وسماتهم في كلّ حرف سُطّر على الورق.

حين تقرأ قصص سعد تشعر وكأنك في حضوره، يقودك بين المعاني، كأنما يدعوك للتفكير في تجاربه السياسية والنضالية، عبر هذه القصص القصيرة التي تختصر الزمن والمسافات وتربط بين الأجيال.
وكلما قرأته أكثر، كلما وجدته يذهب بك في رحلة مختلفة عن الرحلة السابقة، ويقع هذا بخصوص نفس القصة. إنها قصص شديدة المحال حقًا.

إنك تقرأ لسعد، وأنت ترى دائمًا في خلفية القصة ظله ومساره وشخصيته.
لقد اختار هذا الأديب العائد القصة القصيرة، والقصيرة جدًا، لأنه أراد أن يختصر، أن يلخّص لنا تجربته، ويمدّنا بسيرة فكرية ونضالية غير ذاتية له عبر قصصه.
ولكنه، غير مستبد، يترك لنا أن نفهم منها على قدر استعداداتنا ومؤهلاتنا.

أعتقد أن نضجه الفكري المبكر جعله ينأى منذ البداية عن الرواية وإطنابها، وأنه حين تقدّم في التجربة وكتب قصصًا في سنة 2020، إذا بها تقصر أكثر، كأنما يعلن بهذا القصر أنه استوى أكثر، وأنه انتقل إلى مقام أعلى في كتابة القصة، مقام يتكثّف فيه المعنى.
ألم يقل الصوفيون: “كلما اتّسع المعنى، ضاقت العبارة”؟
وقع هذا لسعد، وقد قطع أشواطًا بعيدة في عالم السياسة. ولذلك، أظن أنه مخطئ من يقول إن السياسة والأدب مجالان متناقضان أو متوازيان.
سعد العلمي قد أثبت أنهما يتقاطعان في بعض النفوس المرهفة، ولدى بعض الأقلام السيّالة.

فالسياسة، بحركيتها العنيفة وتقلباتها واضطرابها، غالبًا ما تصبح الخلفية التي يُعاد فيها تشكيل وعي الأديب، وتنضج فيها رؤاه، بل وتُخلق فيها أعظم أعماله.
من هذه المجموعة، نستشف أن السياسة قد عركت الأدب عند سعد العلمي، بما تطرحه من قضايا وجودية كالقمع، والحرية، والعدالة، والهوية، والانتماء.
بهذا المعنى، تكون السياسة قد دفعت أديبنا هذا دفعًا نحو إعادة النظر في ذاته، وفي مجتمعه.

سعد العلمي في مجموعته ليس مجرد كاتب حكايات، بل هو شاهد على عصره، وناقد لتاريخه، ومؤرّخ بالقصة لوجدان الشعب المغربي.

نلاحظ، بالمناسبة، أن كثيرًا من الروائيين الكبار لم يظهروا على الساحة الأدبية إلا في سنّ متقدمة، غالبًا بعد الستين. وهذا ليس مصادفة.
وهو معيار أعتمده شخصيًا لانتقاء قراءاتي في القصة والرواية.
فالأديب لا يُنتج أدبًا عظيمًا إلا بعد أن يمرّ بتجربة سياسية أو اجتماعية تُهشّم نظرته الساذجة للعالم، وتُجبره على إعادة بنائه من جديد عبر الكتابة.

وغالبًا ما تكون الكتابة في هذه المرحلة نوعًا من “الاعتراف”، أو “التصفية” التي يصل فيها الكاتب إلى ذروة الوعي السياسي والإنساني.
مثال على ذلك: نجيب محفوظ، الذي لم يكتب ثلاثيته الخالدة بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية، إلا في منتصف عمره، بعد أن خبر ثورة 1919 وتبدلات الحياة في مصر.
لم يكن ليكتبها بذلك العمق لو لم يعش التحولات الكبرى في السياسة والمجتمع.

السياسة تُنضج ولا تُفسد، بينما السياسي قد يُفسد، لكن السياسة – كتجربة وجودية – تُنضج الأديب.
تمزّق براءته، وتدفعه ليُواجه الأسئلة الأصعب: من نحن؟ إلى أين نمضي؟ ماذا تعني الحرية؟
هذه الأسئلة لا يطرحها إلا أديب خَبِر مرارة التحولات، وشهد سقوط الشعارات وتهاوي الأحلام الوردية.

السياسة كانت الرحم الذي تمّ فيه تخلّق وولادة الأديب سعد العلمي.
هي لم تُظهره فقط، بل صقلته أيضًا، ومنحته مادته الأدبية الخام وسردياته.
وما أكثر هذه المواد الأدبية الخام عند سعد العلمي، وما أشدّ تنوّعها وثراءها، وما أخصب خياله!

في قصة الماتادور، التي تعني “القاتل” بالإسبانية، يصوّر كيف سيخرّ الثور بسيف المصارع، تحت عاصفة من تصفيقات الحِسان.
هذا النص مستفز، لأنه يُعرّي الطبيعة الإنسانية، وخصوصًا تلك الجماهير التي تُشجّع الظالم وتُصفّق للمقاتل، رغم معاينتها للعنف الواقع على الثور، الذي يُمثّل الطرف الضعيف.
وهذا يشير إلى ثقافة الخنوع، بل والتشجيع على الظلم، التي تميّز بعض المجتمعات التي ترضخ لسلطة لا تُنصفها.
هذا النص هو مقالة عن الظلم، وكيفية تدجينه للضعفاء، وللمجتمعات التي تحتفي بالظالم وتُبجّله وتغضّ الطرف عن انتهاكاته، سواء داخل الدول أو على مستوى الركح الدولي.

في النص الذي يحمل عنوان “تعود”، يحكي القصاص عن العصفور الذي لم يهتدِ لمغادرة قفصه، رغم أن باب القفص قد فُتح.
وهو كناية عن أولئك الذين يستمرئون البقاء في عبوديتهم، سواء بفعل التعود عليها، أو بفعل وقوعهم في حب الجلاد كما هو الحال في متلازمة ستوكهولم، أو لأنهم عبيد لا يعون عبوديتهم، وبالتالي يستحيل عليهم أن يفكّوا أغلالهم.

يريد في هذه القصة أن يبرهن لنا على صدق المثل الذي يقول: “إنك تستطيع أن تأتي بالفرس إلى النهر، لكنك لا تستطيع أن تجبره على الشرب”، كأنه يرمز إلى أن الشعوب التي طال انقهارها وانكسارها تألف هزيمتها، فلا فائدة من أن يحرق المناضل نفسه لينير الطريق لشعوب ترفض أن تتحرر، أو لا تشعر بالحاجة للتحرر.

ختامًا، أستطيع أن أقول:
إن قارئ هذه المجموعة القصصية لن يفرغ منها إلا راضيًا مغتبطًا مبتهجًا، وإلا راجيًا – بالخصوص – أن يُمتعنا سعد العلمي من حين إلى آخر بقصص أخرى تشبه هذه، قصص تنبض بالعمق والإبداع، وتعكس، هذه المرة، نظرته الحالية للسياقات وللحياة وللوجود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News