سعيد بنيس: انزياح المثقف الديجيتالي أفرز نخبة عائمة مكبّلة بالإثارة و”البوز”

يعيش المغرب، كما باقي دول العالم، “انفجارا ديجتاليا” وتناسلا مفرطا للحسابات والصفحات “الفيسبوكية” وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي، التي تحولت من فضاء افتراضي إلى عالم موازٍ يملك “هالة التأثير” وسلطة الفعل ورد الفعل، بل والتحكم في الواقع الحقيقي المُعاش، سياسيا واجتماعيا وحتى اقتصاديا.
وتكاد تسيطر حسابات وصفحات تقتات على “التفاهة” وتغوص في الحيوات الخاصة للسياسيين والفنانين والمشاهير عموما على قائمة الأكثر تفاعلا ومشاهدة بمختلف منصات “سوشيال ميديا”، التي أضحت مهربا ومتنفسا للآراء، حتى المتشددة حد التطرف.
ووسط اللغط والتدافع الافتراضي، يبرز دور المثقف “الذي كان فيما قبل يتخصص في مواضيع بعينها، تشكلت من خلالها أنواع أدبية وأصناف علمية ومقاربات في العلوم الاجتماعية والإنسانية”، وفق سعيد بنيس، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، الذي شدد على أن الراهن الافتراضي وضعنا أمام نوعين ممن أسماهم “المثقفين الديجيتاليين”.
وزاد بنيس في تصريح لجريدة “مدار21” أننا أصبحنا أمام “مثقف يرمي إلى التأثير والتفاعل الإيجابي من خلال تداول مواضيع بعينها بالارتكاز على مرجعيات علمية وأكاديمية وكذلك عبر التراكمات التي يمكن للمثقف الديجتالي أن يكون قد قام بترصيدها وتملكها والتمكن منها عبر جسر التفاعلات والقراءات”.
وحّذر الأكاديمي من النوع الثاني عندما يصبح تأثير المثقف الديجيتالي “سلبيا وينتج عنه انزلاق نحو ما صار يطلق عليه مسمى التفاهة عندما يصبح هذا المثقف يدلي بدلوه في جميع الإشكالات الثقافية دون بحث أو تراكم ويكون همه ربحي ومادي أو فقط عاطفي ذاتي”.
وشدد على أنه “هذا الانزلاق أدى إلى بزوغ ‘ثقافة سائلة’ و’مثقف سائل’ و’نخبة عائمة’ تتناول الإشكالات والقضايا بمقاربة آنية و’حاضرية’، دون مساءلتها مساءلة متأنية وموضوعية”.
وذكر أن المثقف في السابق كان “ينتمي لبعض الهيئات والفئات المجتمعية من قبيل فئة المهندسين والأطباء والمدرسين والباحثين والاقتصاديين والكتاب والفنانين… وكانت مسألة المثقف مسألة نخبوية، لكن مع التحول الرقمي وهامش حرية التعبير التي أتاحها العالم الافتراضي أصبحنا أمام طفرة من التفاعلات والنقاشات بين رواد ومستعملي الأنترنيت أفضت إلى مشاعية نخبوية ثقافية”.
ويرى المتحدث أنه يمكن اعتبار المنزلق نحو التفاهة أحد مساوئ العالم الافتراضي الذي أتاح فضاء وهامشا مفتوحا للتعبير لجميع أفراد المجتمع فانتقلت المواضيع المتناولة من مواضيع تمس الشأن العام والمصلحة العامة إلى مواضيع ذات صبغة عاطفية وذاتية ضاربة في الخصوصية والسرديات الفردية”.
وأبرز صاحب كتاب “نْيُوتَمَغْرِبِيتْ.. ملاحظات حول المجتمع الافتراضي المغربي” أن “المثقف الديجيتالي الذي يمتلك غالبا قناة وحائطا وحسابا وصفحة افتراضية ليس هدفه المشاركة في رفع مستوى الوعي المجتمعي وتحصين الرأي العام وتثبيت قيم تساعد على تقدم المجتمع وصون قيم العيش المشترك والرابط الاجتماعي والابتعاد عن ثقافة العنف والكراهية، بل يصبح رهينة فعل الإثارة والبوز والحصول على أكبر نسب من المشاهدات والمتابعين”.
وخلص سعيد بنيس في حديثه للجريدة إلى أنه بناء على هذا الانزياح “يمكن استشراف بزوغ ‘زوايا جديدة بـ’مريدين جدد’ وبـ’شيوخ جدد’ يتشكلون من الفئة الثانية من المثقفين الديجيتاليين”.
وأشار إلى أن “الانتقال إلى ما يمكن أن نسميه ‘زمن ما بعد الحقيقة’ فإن الفعل الثقافي صار عرضة للأخبار الزائفة والتي إذا انتشرت في الميدان الثقافي قد تؤدي إلى مأزق ثقافي وقيمي. وهذا المأزق يشجعه المثقف الديجيتالي لاسيما ذاك المثقف الذي يغيب لديه الهم الثقافي والتنويري والتنشئة المجتمعية”.
وزعم بنيس أن بروز زوايا افتراضية ومثقف يملك قناة على اليوتيوب ومتابعين يؤمنون بثقافته، يوجب على المثقف الكلاسيكي “العودة للساحة والانخراط في العالم الافتراضي الذي أـصبح بمثابة عالم واقعي لاسيما مع المرور من مجتمع التواصل الواقعي إلى مجتمع الاتصال الرقمي وتحول الأفراد والقراء من أفراد وقراء واقعيين إلى أفراد وقراء افتراضيين”.
واسترسل بالقول “لهذا يبدو أن على المثقف الكلاسيكي أن يعود ويسترجع وظيفته الأساسية في تصويب الانزلاقات والمساهمة في التنشئة الثقافية لأننا صرنا في أزمة مجتمعية بصيغة احتباس قيمي وجب ضبطه واستشراف عواقبه”.
وأكد أستاذ علم الاجتماع أن المثقف الكلاسيكي “صار مجبرا على الانخراط في إشكالات المجتمع الذي أضحى مجتمعا افتراضيا، مما يحتم عليه النزول من برجه العاجي إلى البرج الافتراضي”.