مجتمع

أحمد الحليمي.. هل يكون الإحصاء آخر أوراش المندوب السامي؟

أحمد الحليمي.. هل يكون الإحصاء آخر أوراش المندوب السامي؟

بينما يترقب المغاربة نتائج الإحصاء العام للسكن والسكنى لسنة 2024، هناك من تنتابه الحيرة عن الموعد الذي سيقتنع فيه أحمد الحليمي بإعطاء الراحة لنفسه والاستفادة من تقاعده المستحق، والذي تأجل كثيرا، حتى باتت المندوبية السامية للتخطيط أشبه بعقار مسجل باسمه، إلى درجة أن الإعلام يسميها “مندوبية الحليمي” دون أن يخلق ذلك أي التباس لدى المتتبع.

ومن الواضح أن الحكمة القائلة بأن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده باتت أقرب إلى التحقق مع المندوب السامي للتخطيط، الذي يجر خلفه أكثر من نصف قرن من التمرس في السياسة والإدارة، يوشك أن يضع لها نهاية لا تليق بأحد كبار قادة الاتحاد الاشتراكي والإدارة المغربية، لا سيما مع حجم الجدل الذي رافق الإحصاء الحالي.

الحليمي، الذي أحصى لأكثر من عقدين “أنفاس” المغاربة وعددهم وطرق عيشهم والظواهر التي تنخر مجتمعهم، يضع المتتبعين لمساره أمام التباس ما إن كان بالفعل قد فضل أن يطّلق السياسة بالثلاث أم أنه فقط ترجم ممارسته السياسية إلى لغة أرقام يعلنها في كل مرة، لتُناقض أرقام حكومية أو تحليلات مؤسسات أخرى، أبرزها بنك المغرب.

ولا أحد يجد تفسيرا مقنعا لاستمرار الحليمي طيلة هذه المدة على رأس المندوبية السامية للتخطيط منذ تعيينه بالمنصب بداية العهد الجديد، علما أن العمل التقني ومنهجية عمل المؤسسة باتت معروفة، إلى درجة إمكانية أن تسير نفسها بنفسها. ويصبح السؤال أكثر إلحاحا مع الوضع الذي وجد فيه المندوب السامي نفسه، خلال إشرافه على واحد من آخر الأوراش في مسيرته.

ويختار الحليمي، بتسريحة شعره الأيقونية ونظاراته التي تبدو عاكسة لفكر عميق، كمن يعرف الإجابة ولا يريد الإدلاء بها، ذلك أن من يفكك شفرات الأرقام والبيانات، ومن خبِر طبيعة تحديات التخطيط الاقتصادي في المغرب، هو مطالب أيضا بالمساهمة في إبداع الحلول، ولو من خارج قبعة المؤسسة التي بات يرتديها بصعوبة، بدل الاكتفاء بالأرقام التي تبدو أقرب إلى السخرية من “فشل سياسي” متكرر.

ومع كل الجدل المستمر الذي رافق المندوب السامي للتخطيط، يبدو أن الرجل المخضرم أقرب أكثر من أي وقت مضى إلى التوقيع على آخر الإحصائيات التي سيقدمها عن المغاربة، ما يجعل المتتبعين لمساره يتساءلون حول ما إن كانت هذه آخر الأوراش في تجربته الممتدة على مدى عقود من الزمن.

الإحصاء الأكثر جدلا

رافق عملية الإحصاء العام للسكن والسكنى 2024 في المغرب كثير من الجدل، خاصة بعد انتشار الشائعات وغياب التواصل الكافي حول العملية، بالرغم من إسناد صفقة تواصل ضخمة إلى شركة “شمس” المملوكة لنور الدين عيوش، بميزانية تفوق مليارا و600 مليون سنتيم.

ورغم الصفقة الكبير، إلا أن الإخفاق التواصلي رافق مندوبية الحليمي فيما يتعلق بالترويج وتوضيح إجراءات ومستجدات الإحصاء، وهو إخفاق لم تنجح المجهودات المبذولة في توفير الوسائل الإلكترونية واعتماد منصات رقمية في التكوين وملء الاستمارات في تغطيته، مما فتح الباب أمام انتشار شائعات.

ولعل أهم هذه الشائعات مزاعم أن الإحصاء سيترتب عنه إلغاء الدعم عن عدد كبير من الأسر المستفيدة من الدعم المباشر وأيضا التغطية الصحية، بناء على طبيعة الأجوبة التي يمكن أن يقدمها المواطن للجن المكلفة بعملية الإحصاء، مما خلق صعوبات أمام المكلفين بالعملية ميدانيا.

وإلى جانب ذلك، أقصت المندوبية السامية للتخطيط بشكل غير مفهوم اللغة الأمازيغية، مما سبب غضبا كبيرا وسط فعاليات مدنية، ودعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى الإجابة عن الأسئلة بالأمازيغية فقط، مما أثار نقاشا كانت المندوبية في غنى عنه.

الانتقادات الأعمق رافقت منهجية جمع المعلومات وعدم تطوير المندوبية طيلة عقود من الزمن أسلوبا يغني عن تجول الآلاف من الأطر في الشوارع والأحياء من أجل إحصاء السكان وجمع معلومات يفترض الحصول عليها دون عناء وهدر للميزانيات.

وما دامت المندوبية قد أعلنت انطلاق العملية، وجد عدد من المتخصصين المتتبعين صعوبة في استيعاب سبب اقتصار المندوبية على توزيع الاستمارة الطويلة على 20 في المئة من السكان فقط، علما أنها تتوفر على إمكانيات هائلة، في حين أن أسلوب العينة يُعتمد في الغالب من طرف الباحثين الفرادى.

وإلى جانب ما تقدم، غلبت على لغة أحمد الحليمي، في الندوة الصحفية التي سبقت انطلاق الإحصاء، لغة الوعيد والتهديد في حق الرافضين للإجابة عن أسئلة الباحثين، والتهديد بفضحهم، ما جعل كثيرين يحكمون بأنه أخطأ التقدير.

طلاق مع السياسة

باستحضار مسار أحمد الحليمي، قيدوم الاتحاد ورفيق بوعبيد واليوسفي، يتساءل المتتبعون عن الأسباب التي دفعت الرجل إلى إدارة ظهره للسياسة والاقتناع بشغل منصب تقني لا يتسع لآفاق تفكير واحدٍ من أبرز من أنجزوا التقرير الإيديولوجي للحزب إلى جانب كل من عمر بن جلون ومحمد عابد الجابري.

ويكفي التذكير بأن الرجل الذي اقتنع منذ أكثر من عقدين من الزمن بمهمة تقنية، كان أحد أبرز من اعتمد عليهم عبد الرحمان اليوسفي خلال تشكيل حكومة التناوب، قبل أن يُسند إليه منصب وزير الشؤون العامة، الذي جعله يتمتع بوضعية خاصة.

الحليمي، الذي أطلق صرخته الأولي بمدينة مراكش في 15 مارس 1939، استهل مساره الدراسي ما بين سنتي 1958 و1963، في فاس والرباط. ثم حصل على شهادة الدراسات العليا في الجغرافيا الاقتصادية، ثم درس لفترة وجيزة في جامعة الرباط عام 1966، وهي الفترة التي تفتق خلالها وعيه السياسي ليبرز في قيادة منظمات الحزب الشبابية والطلابية.

وقبل أن ترجح كفة الإدارة في مسار الحليمي، يلاحظ المتصفح لسيرته أن هناك توازيا بين تطوره في المهام والوظائف التي شغلها ومساره السياسي، فقد شغل ما بين عامي 1968 إلى عام 1971 منصب مدير الدراسات الفنية والاقتصادية، ثم نائب مدير الصندوق الوطني للائتمان الزراعي (CNCA)، قبل تعيينه أمينًا عامًا في وزارة السياحة سنة 1971، ووزير التخطيط والتنمية الإقليمية في سنة 1973.

الحليمي أيضا عاش تجربة إدارية بالمكتب الوطني للريّ، ثم مكلفا باستصلاح البنيات الاجتماعية والوضع القانوني للأراضي في هضبة فاس-مكناس، في إطار تهيئة حوض نهر سبو، قبل أن ينضم في 1968-1969 إلى مؤسسة القرض الفلاحي، مع قيامه من حين لآخر، بمهام استشارية، خبيرا في القضايا المؤسساتية، وذلك في إفريقيا والعالم العربي لفائدة مركز الاستثمار التابع لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية، والبنك أو الصندوق الدولي للتنمية الفلاحية.

وبالرغم من هذه المهام، ظل الرجل محافظا على نفسه السياسي وتطوره داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، ليترشّح باسمه في الانتخابات التشريعية لسنة 1977، فيما سيرفض الترشح مرة أخرى سنة 1984 رغم إلحاح قيادة الحزب.

وخلال نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، عمل الحليمي في مختلف الاتجاهات ليتولى عام 1983 منصب مدير مكتب زعيم الحزب الراحل عبد الرحيم بوعبيد. ثم جاءت فترة انكفاء وتقوقع، وخلال عام 1986، شغل منصب مدير عام لأمانة اتحاد لم يعمر طويلا بين المغرب وليبيا، وفي عام 1992 تولى الحليمي رئاسة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد.

المسار الغني الذي بصم عليه الحليمي لم يشفع له في الاكتفاء خلال العقدين الأخيرين بدوره التقني، ذلك أن كثيرا من المتتبعين لمسار الرجل كانوا ينتظرون منه أن يشغل أدوارا أبرز، سواء في قيادة الحزب وأيضا في الظرفيات التي مرّ منها المغرب في عدد من المحطات، وذلك بإنتاج أفكار سياسية والمساهمة في إعادة إثراء النقاش العمومي.

“صراعات” الأرقام

ومن رحابة السياسة وفساحة الأفكار والإيديولوجية إلى صرامة الأرقام التي أدخلت المندوب السامي في صراعات مع حكومات متعاقبة ومؤسسات أخرى بسبب التضارب الذي ينتج عنه  بسبب الاختلاف في المقاربات المعتمدة، ما جعل بعض الوزراء يلبسون الحليمي جبة المعارض بسبب مخالفته للتوقعات الحكومية ورسم صورة قاتمة عن الوضع الاقتصادي.

صراعات الأرقام التي دخلها الحليمي دفعت إلى طلب “جميع رؤساء الحكومات من الملك أن يقوم بإعفائه، باستثناء عباس الفاسي”، وفق ما أكده خلال الندوة الصحفية التي سبقت انطلاق عملية الإحصاء. وكانت حكومتا العدالة والتنمية من أكثر الحكومات التي تناقض وزراؤها مع أرقام المندوبية.

ومن المناسبات التي تفجر فيها الخلاف بشأن الأرقام تلك المرتبطة بمصدر التضخم وجدوى رفع سعر الفائدة من طرف بنك المغرب، ثم ما خلفه مؤخرا التقرير المنجز من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عن المغرب، ما دفع المندوبية إلى إصدار بيان يكذب الاستنتاجات التي توصلت إليها المنظمة فيما يتعلق بالأنشطة الإحصائية للمندوبية السامية للتخطيط.

ومن جهة أخرى، يذكر أن الملك محمد السادس سبق أن دعا إلى  إجراء إصلاح عميق للمندوبية السامية للتخطيط، لتأهيلها لتكون قادرة على مواكبة النموذج التنموي، ومن أجل جعلها آلية للتنسيق في سياسات التنمية، ومواكبة تنفيذ النموذج التنموي وفق معايير مضبوطة ووسائل حديثة للتتبع والتقويم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News