رأي

نتائج الانتخابات الأوروبية.. من القلق إلى الخوف

نتائج الانتخابات الأوروبية.. من القلق إلى الخوف

ارتفعت أسهم اليمين المتطرف في بورصة السياسة الأوروبية إلى درجة أنها استطعت أن تحدث رجةً في بنيان البرلمان الأوروبي دون أن تسقطه.

صحيح أنَّ نتائج الانتخابات الأوروبية، يوم أمس الأحد، لا تسمح لليمين المتطرف [بقيادة مارين لبن، انطلاقا من فرنسا، وميلوني من إيطاليا، ومن يدوره في فلكهما شرقا وغربا وشمال وجنوبا] بقلب موازين القوى في بروكسيل، لكنه يستطيع خلخلتها من حين لآخر في السنوات الخمس المقبلة، وخير دليل على ذلك ما حدث أمس في فرنسا، حيث أٌجبِر الرئيس إيمانويل ماكرون على الدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة. حجم الأصوات والمقاعد التي تحصل عليها اليمين المتطرف في فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وهولندا وبولونيا، وظهور حزب يميني متطرف وشعبوي في اسبانيا اسمه “انتهت الحفلة”، وحصوله على ثلاث مقاعد انطلاقة من منصات مواقع التواصل الاجتماعي؛ يٌؤَكِدٌ أن الأوروبين انتقلوا من القلق إلى الخوف.

هذا الإحساس بالخوف من الواقع والحاضر والمستقبل يجعل المواطن الأوروبي يرتمي في أحضان الخطاب القومي الشعبوي السهل والعاطفي والحاقد على النظام والواقع كما هو. هذه الكيانات السياسية الشعبوية التي تخرج من رحم الفضاءات الافتراضية تكون منسلخة عن الواقع، بحيث لا تكون لها برامج ولا وصفات ولا حلول؛ ولذلك نجدها تركز على التخويف من الآخر، واتهامه، والتعريض به. هذا الآخر ليس بالضرورة مهاجرا أو أجنبيا او مسلما أو غجريا أو أو، بل قد يكون منافسا سياسيا أو مسؤولا أوروبيا أو من نفس البلد وحتى الجهة والمدينة، وإذا لم يجدوا هذا الآخر يصنعونه، لأنهم يقتاتون مما يصنعون.

حسابيا لن تٌحدِث نتائج الانتخابات الأوروبية أي زلزال على مستوى الحكم والمؤسسات الأربع الحساسة والمهمة في منظومة الاتحاد الأوروبي. أقصد المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي والدبلوماسية الاوروبية La Alta Representación de la Política Exterior de la Unión Europea.

صمام الأمان في السنوات الخمس المقبلة هو حلول الحزب الشعبي الأوروبي في المرتبة الأولى بـ186 مقعدا، متبوعا بالاشتراكية الديمقراطية بـ134 مقعدا، وتكتل تجديد أوروبا ثالثا بــ79 مقعدا، فيما حل الخضر في المركز السابع بـ53 مقعدا؛ وهي كلها أحزاب وتشكيلات وتكتلات سياسية تؤمن بالوحدة الأوروبية وروح فكرة الاتحاد الأوروبية، رغم اختلاف برامجها.

القلق يتمثل في كون أن الأحزاب التقليدية الشعبية والاشتراكية لم تنجح في العقود الثلاثة، منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي في فاتح نونبر 1993، في تشييد جدار واقي، عبر برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، يحد من الخطر الداهم والمتمثل في اليمين المتطرف والعنصري، والحركات القومية الشعبوية، واليسار الشعبوي.

فشل الاحزاب التقليدية في الاستجابة لتطلعات المواطنين وعدم قدرتها على مواكبة التطور التكنولوجي ومجاراة مواقع التواصل الإجتماعي، وتورطها في بعض قضايا الفساد أو ما شابها ذلك؛ كلها عوامل سهلت صعود نجم اليمين المتطرف والشعبوية اليمينية واليسارية على حد سواء.

الخوف. الأخطر هو وجود أن من داخل الأحزاب الاوروبية التقليدية من يريد أن يقوم بعملية تبييض مقاعد اليمين المتطرف المتطرف العنصري وتقديمه على أنها مجرد تشكيلات محافظة للغاية. بدأنا نشهد استعمال في بعض وسائل الإعلام الواسعة الانتشار عبارة ultraconservador بدل la extrema derecha و la ultraderecha.

في الخريطة البرلمانية الأوروبية الجديدة حصل اليمين المتطرف، بكل تسمياته وألوانه، على نحو ربع/ 24,5 في المائة من المقاعد، نحو 180 مقعدا. تكتل عائلة المحافظين والاصلاحيين حل رابعا بـ73 مقعدا، فيما جاء تشكيل أسرة الهوية والديمقراطية سادسا بـ58 مقعداً. كما حصلت تشكيلات جديدة على 55 مقعدا، بينما حصدت تشكيلات غير المنتمين 45 مقعدا ( من بينها 10 مقاعد للقوميين الشعبويين بقيادة فيكتور أوربان في المجر). فيما تراجع اليسار إلى المركز الأخير ب36 مقعدا، وهو الواقع الصعب الذي تعبر عنه الأزمة التي يمر منها اليسار على يسار الحزب الاشتراكي في اسبانيا. ضعف وتواضع الأصوات والمقاعد التي حصل عليها يسار اليسار في اسبانيا (Sumar, Podemos, Ahora República) يعبر عن هذه الأزمة التي جعلت حزبا ثوريا وفتيا من حجم بوديموس، عقدت عليه آمال واحلام، يصعد ويسقط بنفس السرعة، وهو اليوم على وشك الانقراض.

ولو أن الحالة الايبيرية (إسبانيا والبرتغال) تختلف جملة وتفصيلا عما يجري ما وراء جبال البرانس Los pirineos، إلا أن زحف المد اليميني المتطرف واضح وجلي في اسبانيا والبرتغال، ولكنه ليس جارفا ولا مهددا لروح الفكرة الأوروبية.

عادت الانتخابات الأوروبية لتؤكد أن الجزيرة الإيبيرية تتأثر أكثر بالرياح الجنوبية والأطلسية منه من تلك الآتية من وراء البرانس. ويظهر أن النزعة اليمينية الترامبية ( أمريكا) والبولسونارية (البرازيل) والميلية ( الأرجنتينية) – الأطلسية عامة- أثرت في إسبانيا، ولهذا قد تكون عودة ترامب إلى الحكم، في حالة فاز بالانتخابات في نونبر المقبل، بمثابة جرعة أوكسجين إضافية ودفعة قوية لليمين المتطرف على الحدود المغربية (باسبانيا والبرتغال).

صحيح أن الأحزاب المدافعة عن الاتحاد الأوروبي (الشعبيون والاشتراكيون والديمقراطيون والليبراليون والخضر) نالت 63 في المائة من الأصوات؛ لديها أغلبية مريحة في البرلمان، أي أكثر من 370 من أصل 720. لكن لا يجب أن نستهين بصعود نجوم- ليس نجم واحد- اليمين المتطرف. مهما حاول البعض تبييض وجه جزء من اليمين المتطرف في أفق التحالف البرغماتي معه اذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، إلا أنه يبقى أكبر مهدد لفكرة الوحدة الأوروبية والتعايش بين مختلف الأجناس والأعراق والأديان. اليمين المتطرف حصل على 25 بالمئة من الأصوات، وهذا خير تجسيد للزحف اليميني المتطرف على القارة العجوز.

والمقلق هو أن بؤر الزلزال اليميني الشعبوي المتطرف سجلت في الدول المحورية/ ركائز المنظومة الأوروبية؛ أي في محور برلين/ باريس؛ وإذا أضفنا إليها أيطاليا تكتمل الصورة.

في فرنسا انتصر اليمين المتطرف/ التجمع الوطني بقيادة مارين لوبن، الى درجة أن الرئيس امانويل ماكرون عجل في خطوة إنتحارية، مقلدا بيدرو سانشيز في 2023، بالدعوة إلى انتخابات مبكرة. في ألمانيا حل اليمين المتطرف في المرتبة الثانية مسبوقا باليمين، ومتبوعا بالاشتراكية الديموقراطيين التي مونيت بأكبر خسارة لها أوروبيا. وحده اليسار في شخص الحزب الاشتراكي الاسباني حفظ ماء وجه الاشتراكية الديمقراطية.

النتائج التي حققها اليمين المتطرف تبقى نسبيا منسجمة مع تطورها وتحركها وتأثيرها في المعترك السياسي. اليمين المتطرف يحكم أو شريك في الحكم أو يدعم من يحكم في إيطاليا والسويد وفيلندا والتشيك وهولندا والنمسا واوكرانيا، في 24 في المئة من الدول الأوروبية، وهي نفس النسبة المئوية المحصل عليها على مستوى الاصوات في انتخابات 9 يونيو 2024.  اليمين المتطرف حلّ كذلك في المرتبة الأولى في فرنسا وإيطاليا والمجر والنمسا، وثانيا في ألمانيا وهولندا وبولونيا. وهو مصدر الخوف الذي قد يدفع المواطن الأوروبي إلى استهلاك خطاب اليمين المتطرف أكثر فأكثر وترجمته الى صوات ومقاعد في الانتخابات المحلية والجهوية والتشريعية والرئاسية في كل الدول الأوروبية، كل حسب نظامه الانتخابي.

لا يمكن تحليل كل هذه النتائج وتأثيرها وتداعياتها دون أخذ بعين الإعتبار الحرب بين الغرب وروسيا على الأراضي الاوكرانية، والحرب والاعتداءات الاسرائيلية على الفلسطينيين في غزة وخارجها، وتداعيات كوفيد 19 والتغيرات المناخية، وتحد الهجرة والتقلبات الجيوسياسية الأقليمية والعالمية، وكلها عناصر لا يتسع المجال للتطرق إليها. فتأثيرها في صناديق الاقتراع كان واضحا. الخوف دفع الأووبي إلى التصويت لليمين وإلى اليمين المتطرف. لا يمكن انكار أن المواطن الإسباني يفكر فقط في مدينته وبلده، وقل الشيء ذاته عن باقي البلدان الأعضاء في الاتحاد الأووبي. اليمين عرف كيف يحول اللايقين والقلق والخوف إلى عملة مربحة انتخابيا، لكنها مزيفة في ظل غياب برامج ومشاريع حقيقية ملموسة.

ما يهمنا نحن كمغاربة هو تحليل ومحاولة فهم تداعيات زحف اليمين المتطرف على الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والاتحاد الأوروبي، عامة، وعلى التعاون الاستراتيجي مع بعض الحفلاء الأوروبيين الجدد والتقليديين، خاصة، بحكم الواقعية والبراغماتية، مثل فرنسا واسبانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها. ومن واجبنا أن نحاول فهم تداعيات هذا المد على ملايين المغاربة المقيمين في أوروبا.

إذا كانت نتائج الانتخابات الاوروبية لن تغير موازين القوى في المؤسسة الأربع الحساسة في أوروبا، فإن العلاقات المغربية الأوروبية لن تتأثر، وربما قد تتطور إيجابيا مقارنة على ما كانت عليه في السنوات الخمس الأخيرة. لكن هذه الانتخابات غيّرت موازين القوى الأوروبية تجاه المسلم والمغربي والأجنبي. اليمين المتطرف لم يعد يضغط انطلاقا من الشارع ومنصات التواصل الاجتماعي بل دخل إلى البرلمان الأوروبي ليبلور خطابه إلى مقترحات في أفق تتويجهها بقرارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News