رأي

فلسطين في شعر علال الفاسي

فلسطين في شعر علال الفاسي

لعل علال الفاسي يتصدر أيقوناتنا الشعرية القليلة التي أضافت لصيتها المغربي، صيتا عربيا و آخر إسلاميا فريدين من نوعهما، ذلك أن مسيرة هذا الزعيم الفذ حتى في شعره قد كانت في مجملها مرآة عاكسة لما ماج من أحداث جسام  أمام ناظريه طيلة حياته الزاخرة بالنضال بهذه الجغرافيات الثلاث، وبهذا المعنى، يحق لهذا الزعيم الفذ أن يصنف ضمن الثلة القليلة من الرواد العرب والمسلمين الذين يهرع إليهم الناس عادة في الأزمنة العصيبة ليستفتوا  فكرهم ويقيسوا عليه المواقف المطلوبة منهم في الزمن و في الموقف الذي يكابدون.

إن هذه الحاجة النفسية للاستلهام من العظماء والخالدين،  هي نفسها التي  تجعلنا نفهم الدوافع التي حدت بمؤسسة علال الفاسي لقراءة شعره عن فلسطين في هذا التوقيت المقصود قصدا منها، والمدروس بعناية من طرفها  بكل تأكيد. وكيف لا يفرض هذا الموضوع نفسه عليها، ونحن نعيش حرب إبادة همجية لغزة في ظل عجز عربي وإسلامي رهيبين، و موت معلن وسقوط مخجل للضمير العالمي أمام آلة القتل الإسرائيلية المجنونة. هي تريد، ولاشك، أن نتزود ونغرف من حميته الشعرية الفائرة للقضايا الإسلامية، و تسعى أن تذكر من خلال ماقرظه من أبيات بمقاربته للواجب تحمله تجاه القضية الفلسطينية.  صحيح أن التماهي مع هذه المقاربة العلالية، وما تتطلبه منا من هبة عربية إسلامية لإنقاذ غزة صار من سابع المستحيلات، بالنظر لحالة التشتت والهوان التي تعيشها أمتنا التي كفت أجيالها الحالية، على الأقل الآن، أن تكون  خير أمة أخرجت للناس، ولكننا  قد ندرك من السقف العالي لمواقف علال  ان نبقى مرابطين على أضعف مراتب الكفاح، و التي يمثلها في اللحظة الراهنة، الاستمرار قيد المبادئ و قيد الآمال حتى تظل  القضية حية فينا بانتظار جيل جديد مختلف  قد يغير الموازين والظروف.

ميلاد شاعر وطني وقومي

وفي هذا الإطار، لم يكن من قبيل  الصدفة أن اختار علال الفاسي  ميلاده السياسي من باحة  الشعر لما  انشد  بني جلدته قائلا: أبعد مرور الخمس عشرة  ألعب، وألهو بلذات الحياة وأطرب.

فهو كان يعرف على حداثة سنه الدور الذي  يلعبه الشعر  في تأجيج حماس الأمة  واستنهاضها ،وهي التي كانت منذ تاريخها البعيد تقدس الشعر بل وتحتفي ببزوغ نجم شاعرها الذي سينافح عنها بسلاح الكلمة الملهمة .لقد كان  يحس  ببعد نظره  لهفة الوطن الدفينة  للشاعر  الوطني الذي يصدح بمطالب البلاد ،لكن  طموح هذا اليافع العبقري، والذي كان أول لقب حازه  في حياته ،هو لقب شاعر الشباب ،تجاوز  ببعيد هذا الأفق المحدود ليعانق آمال الأمة  الإسلامية برمتها.إذ لم يلبث ان زج  بشعره زجا في التعبير عن الجراحات التي تعتمل لدى بني الإسلام وبني العروبة كما كان يفضل ان يسمي  بني جلدته في قصائده ، ومن.اول تلك  الجراحات  التي أثخنتهم وأرقته ،كانت  فلسطين .

ولذلك ليس غريبا أن  نجد  أن شعره  قد فاق نثره عن  فلسطين، بل إن فلسطين كانت من أوائل ما طرقه من موضوعات شعرية، ومع ذلك، وبسبب ارتباط اسمه بتحرير المغرب، فقد تغافل الناس والكتاب عن هذا الجانب المشرق من علال .  فطغت  كثيرا صورة علال الفاسي الوطني على صورة علال القومي ،زد على ذلك أن  الكاتب والخطيب فيه  تغلبا على  الشاعر لديه  .وهذا مفارق لما اتفقنا  حوله  قبل قليل بكون  نبوغه قد بدأ أولا بالشعر ،
لقد نظم  علال اولى  قصائده ذات الطابع القومي والإسلامي تضامنا مع  القدس والفلسطينيين في وقت مبكر جدا من مساره النضالي. ولنستبين ذلك، دعونا نعود قرنا او مايقرب من القرن الى الوراء لكي نراه في 1929, وعمره لم يفق 19 سنة بعد، وهو يقود مظاهرة بفاس احتجاجا على هدم مسجد عمر بن الخطاب بالقدس  ،ثم  لنسر بعد هذا التاريخ  ثلاث سنوات للأمام،  ولنصل معا  لسنة  1932،  ولنستمع إليه، وهو ينشد قصيدته  الشعرية المعبرة المؤيدة للمظاهرة النسائية الفلسطينية والرافضة للانتداب البريطاني آنذاك، صارخا بقوة، ومحذرا  أقصى مايكون التحذير من هجرات الصهاينة إلى فلسطين قائلا :
إن البلاد يعبث فيها المستبدون الشداد
يتمتعون بخيرها وتظل تحرم من سداد..

ترون إذن من خلال هذه القصيدة الصادقة ، كيف ان علال يصور لنا في هذا البيت الوضع في تلك المرحلة أصدق تصوير ودقه. تلك المرحلة التي بدأت تتخلق فيها قضية فلسطين وبدأ  فيها  تدفق شداد الآفاق من الصهاينة على اراضيها المقدسة   من كل جهات العالم ،وكيف نبه هذا الفتى الغضي ،  وهو البعيد جغرافيا، ببصيرة الشاعر، الذي يرى بقلبه  مخاطر  المستقبل ، إلى أن  ذلك التهافت على الهجرة  والاستيطان بفلسطين ،سيجعلنا نتورط كعرب ومسلمين  في متوالية من الانكسارات والتراجعات  لخصها في  ماسماه الحرمان من السداد اي  الحرمان من الصواب الذي يفيد  التقدم والازدهار   .ان هذا الذي توقعه علال  لهو بالضبط  هذا الذي لا نزال نعاني منه الأمرين  إلى يومنا هذا. في هذه القصيدة سيمضي ابن 22 ربيعا موضحا :
يأبون أن نسعى لعلم أو فكر في اتحاد
والان قد خطت فلسطين لنا سبل السداد.

في الشطر الأول، يفضح علال  مرامي الاستعمار الذي ضرب كل الرقعة العربية ،والذي يريد أن يمنع  عنها وحدتها، بأن لا يتركها تسعى للعلم والفكر، جاعلا منهما معا شرطا هذه الوحدة المستعصية للآن، ثم لا يتعطل علال ولا يتوانى أن يزرع الأمل، فالأمل حرفة السياسي والزعيم الصادق، ليعلن في الشطر الثاني أن  فلسطين برمزيتها في الوجدان العربي تمنحنا القضية التي سنلتف حولها لأجل السير في طريق الإصلاح والفلاح .أي أنها تقدم لنا فرصة ذهبية  للوحدة.

ثم لا ينفك حتى يحيي النضالات المشروعة للمرأة الفلسطينية، كاشفا بالأدلة الساطعة على تنويريته، وحداثته، وعلى إيمانه بالخصوص، وهو ذاك الشاب الملتزم  الدارس  للفقه بالقرويين  بضرورة تحرير المرأة العربية ومساواتها بصنوها الرجل، فيصدح على رؤوس الأشهاد منشدا :
حيا الإلاه فتاتها وحمى مواقفها الجياد

أي أنه يبارك ماتقوم به المرأة الفلسطينية من جهاد عظيم ،ثم لاينثني يتحمس، فيرفع سقف  الآمال عاليا ، ليقول لها  في الشطر الموالي :
-كوني فتاة العرب رائدة لنا يوم الجلاد-  .

وهنا نجد علال انتقل بسلاسة إلى  دعوة  المرأة العربية  كي تحذو حذو المرأة الفلسطينية وكي تتأسى بنضالها،بل هو لايرى غضاضة من أن تكون المرأة رائدة يوم النزال،أي القائدة للمعركة الحاسمة الفاصلة .
إنه ينتظر  أن تقوم هذه المرأة بالكثير ،فيقول لها وكأنه يستعير  مقولة المتصوف ابن عربي بأن المعركة التي لاتؤنث لايعول عليها   :
-ضمي الصفوف، ووحدي، ولاتخشي أهل العناد-.

هكذا  يحضها حضا بشعره  على أن  تأخذ زمام المبادرة ،و على أن لاتلتفت للمعاندين وللمقاومين للتغيير والإصلاح، المتخلفين عن روح العصر الذين يريدونها جاهلة خانعة   .بعد ذلك ينتقل إلى القضية الأكبر ، قضية الأمة العربية ، ليضيف منبها لها و لنا  جميعا من مضاعفات التفكك والخلاف  على نسيج  الأمة:
-لاتتركيها فرقة ترمي بنا في كل واد-.

هكذا  كان شعر علال منذ البداية إذن  شعر كفاح وجهاد و شعر عروبة وإسلام ونضال والتزام وقيم.

ارتباط القضيتين المغربية والفلسطينية

لقد كان تزامن الحماية بالمغرب مع الانتداب البريطاني بفلسطين سببا كافيا لكي يربط علال الفاسي بين القضيتين المغربية والفلسطينية في وجدانه ونضاله العملي، وسيظهر هذا واضحا في مواقف عدة  امتدت طوال حياته،  فمن رعايته كأمين عام لمكتب المغرب العربي بالقاهرة  للطلبة الفلسطينيين، والذين كانوا ينادونه الوالد ،وقد كان  من بينهم ياسر عرفات، إلى البيان  المرافعة الذي وقعه سنة 1946 باسم حزب الاستقلال، والذي حذر فيه من زرع إسرائيل في قلب العالم العربي  واصفا اياها بالاستعمار الفظيع الذي ستصدر عنه مشاكل وقلاقل لن تنتهي للعالم بأكمله ،  وهو ما أبان فيه عن استباقية ووعي منقطعي النظير بما ينتظر الأمة من ويلات يخطط  خصومها  لأغراقها فيها ، إلى محافظته على رباطة جأشه او رباطة شعره ، وبحثه الحثيث عن استيعاب أسباب نكسة  5يوليو،إلى أن مات وهوينافح عن القضية الفلسطينية أمام رئيس رومانيا ،فكانت فلسطين  آخر ما لقي به هذا المجاهد  ربه. كانت حياة علال بهذا المنظور  صاخبة  عامرة  تضج بالأحداث الجسام والوقائع العظام .و كان أينما التفت حوله، وهو ذو القريحة الوقادة،والشعور المرهف والعزم الفولاذي الذي لايلين ،  يجد أمته  مهانة مستعمرة مهيضة الجناح ،تعاني   تكالب الأمم  عليها، و يرى بني قومه  تتوالى عليهم الهزائم ،ويختلفون مابين نكسة ونكبة ، فيألم  أشد الألم لضياع فلسطين، و يأسى  أشد الأسى لتشرذم البلاد العربية ،و تضطرب نفسه، وتثور، ثم تجيش عاطفته الفياضة ،فلايجد مهربا  ومتنفسا من كل هذا  الشجن إلا بقرض الشعر الذي يوقظ به قومه من غفلتهم ،محييا روح  الحمية والجهاد  فيهم .
كان علال الفاسي، وهو يخوض بشعره غمرة القضايا العربية والإسلامية، قد  رسم لنفسه مذهبا في هذا الشعر  لايحيد عنه إلا قليلا  ،أن يكون هذا الشعر لديه  أداة لا غاية، إذ لم يتخذ من هذا الشعر حرفة ولاصنعة، وإنما  كان يريد منه أن يخدم السياسة لديه، وقبل خدمته للسياسة أن يخدم العقيدة الإسلامية، هذا الجانب الرسالي لشعر علال الذي يمتح من التصور الإسلامي النبوي للشعر هو مايميزه عن الشعراء المجايليين له ،وهو ما تجلى لديه  بالخصوص  فيما انشده عن القدس وعن فلسطين السليبة.

ولطالما سألت نفسي أي الشعراء يكون علال الفاسي، وفي هذا لازلت أذكر  اطلاعي صغيرا على  شعر علال عن الشباب،و الذي كان يريد  لي والدي تحفيزا لي   أن أحفظه عن ظهر قلب مرددا لي دائما  ان علال الفاسي  يمثل في المغرب مدرسة البعث والإحياء التي كان يعد لي من روادها محمود سامي البارودي و شوقي وحافظ ..ومطران خليل مطران ومهدي الجواهري بالعراق.

كان ابي يحب علال و يساويه مكانة بكل هؤلاء الشعراء اللامعين، ولكني لما شببت عن الطوق، بدأت أرى أن علال يتميز عن كل هؤلاء الذين ذكرهم والدي بكونه لم يكن يتكسب بشعره مثلا كشوقي، بل كان يريد أن يكسب بالشعر المعركة ضد الجهل والخرافة والانحطاط، وبالتالي ان يكسب به  معركة طرد  الاستعمار ، ولم يكن أيضا  مثل شاعر النيل حافظ   يكتفي  بالنضال الشعري  عن النضال الميداني. هو لم يكن يقول الشعر كذلك  لأنه كان يريد أن يصير شاعرا لهوى في النفس أو لموهبة يضيق بها و  لابد لها وأن تتفتق فيه ،ولكنه كان يرتجزه لكي يوظفه لصالح قضايا الأمة ويجعل منه برنامجا سياسيا لها.

معركة الوعي عبر الشعر

قد كان علال اذن يسعى  أن يمد معركة نشر الوعي لتشمل كل أطياف الأمة، وكان يعي أن من الأمة من لايقاد نحو الحرية  إلا بالشعر والكلام الموزون. إن هذا مايفسر أنه كان ناثرا و شاعرا، وكان  في شعره مصلحا وثائرا  وصاحب مشروع أكثر منه صاحب خيال وصور شعرية . وكان بالخصوص شاعرا يغلب عليه العقل، وشاعر أفكار وقضايا .فعلال كان شغله الشاغل أن يقود استراتيجية الكفاح وطنيا، و ان يثري مثيلاتها ويعضدها ويوجهها ما وسعه التوجيه فلسطينيا ومغاربيا و عربيا وإسلاميا.ولكني مع كل هذه الخصوصية العلالية ،كان دائم يؤرقني أني لم  أكن قد عثرت بعد على المثل الشعري لعلال الفاسي.  هذا المثل الذي يصر  طه حسين إصرار عنيدا  على تعيينه لدى الشعراء ولدى شعراء مدرسة البعث المصريين على وجه الخصوص .فهل كان علال يريد أن يبعث شعر المتنبي أو البحتري أو ابن تمام أو  شعر ابي العتاهية او ابي العلاء  ؟ هل كان مثله هو  ابن هانئ الذي صحبه ديوانه في منفاه ،فكتب عنه هناك كتابه أبيات الأبيات؟ أم أن علال كان فريد زمانه وكان هو المثل الأعلى لنفسه ؟ .

لقد استمر هذا  السؤال لدي عن الشاعر قدوة علال  الفاسي يلح علي إلحاحا  و أعترف أني لم أكن  أحير له جوابا مقنعا  فأقوم بتأجيله إلى ان كان هذا المقال الذي قيض له الله ان  اخطه بالقاهرة…ملاذ علال الفاسي  خلال السنوات الأخيرة للاستعمار ،والتي  عمقت فيها ،  لأجل تسويده ،تأملي في  شعر علال  عن فلسطين والقدس.فكان ان ترسخت  لدي بالخصوص فكرة  أن علال،إنما قد  كان متأثرا بل و متمثلا أصيلا للمفهوم الإسلامي للشعر منفعلا  على وجه الخصوص بالحقبة النبوية ،فالقرآن كما كان يعرف علال  لم يقف موقفا سلبيا من كل الشعر وإنما من بعضه فقط . لقد استثنى من هذا الحكم السلبي اصحاب الرسالة القويمة من الشعراء  ،وعلال دون شك فكر في هذا واخذه بعين الاعتبار ،ثم  كان أن وضع نفسه ضمن هذا الاستثناء .ولكني مع ذلك واجهت معضلة أن  القدس وفلسطين لا تكفيان  لكي نتبنى نهائيا هذه الفرضية . فقد يقول قائل أو متفلسف ، ان الرجل كان ينبري للقضايا  الرائجة  انذاك ،وأنه ابن عصره لاغير  . في رأيي ،لايبدو هذا الدفع شاملا لعقيدة علال الشعر ية ،هو ابن عصره ومجدد في الشع، ،ولكننا  لما نضيف لهذا الشعر المقدسي.

ما ارتجزه علال في مدح الرسول صلعم، و ما أنشده في مناجاة الله  سبحانه، تتضح لنا بكل جلاء  مدرسة علال في الشعر ،فنستطيع أن نقول  بكل يقين إن القدس وفلسطين  قد كانتا من أغراض الشعر العلالي لانهما تتضمنان هذا البعد الإسلامي  الذي كان يهيم به علال  أيما هيام ويكلف به أيما كلف  .لقد كان زعيمنا  تابعا وفيا للنهج النبوي في كل شيء بما في ذلك  مايخص مطروقات شعره.  وكيف لا يفعل ذلك ،وهو أولا وأخيرا ذاك الفقيه المتمكن،  والعلامة المقاصدي،  والعالم النحرير المتبحر في الشريعة بكتابها وسنتها؟ .ولعلي سأطمع قليلا، ،واتجرأ الآن  أن أعين له مثلا ، وهو مثل يعنيني أنا فقط ،فأقول إنه كان يتأسى بشاعر الرسول صلعم حسان بن ثابت الأنصاري الذي كان يرافق الدعوة الاسلامية بشعره ذائذا منافحا عنها . وهنا لست أزعم  ان هناك تطابقا  بين شعريهما ،ولكني أزعم  انهما يتحدان في  تشابه السياقات وفي الغرض والمبتغى من الشعر . أي انهما يتحدان في مرجعيتهما و في تبنيهما  هما الاثنين للتصور الاسلامي للشعر وللشاعر.
ولتتأملوا معي الآن ،وقد صرنا الى هذه المرتبة من التحليل ، قوله وهو يفصح عن مرجعيته :
إليك رسول الله حبي وأشواقي ،ومنك رسول الله مصدر إشراقي.
و من فعلك البناء مطمح همتي ومطلع آمالي ومنهل أذواقي .
فأي تصريح أبلغ من هذا التصريح بأن علال أولا واخيرا هو في عمقه  شاعر مسلم يذوذ عن حياض الدين وحمى الأمة  ،هل هناك بعد اقرار الشاعر نفسه بمرجعيته  اجتهاد أو تأول قد  يتفوق على هذا الإقرار ؟ .   ثم لتنتبهوا معي رجاء كي نلاحظه كيف يعلن ولاءه  واخلاصه للرسول الكريم بكل قناعة وايمان ، فيقول :
وللمصطفى المختار أخلص وجهتي،  وأقبس من أنواره ضوء إغساق .
ولست اظن الآن  أن  كلا من علال الفقيه،  و علال الزعيم السياسي، و علال المفكر،  كانوا  يتحرجون من علال الشاعر ،فقد كان هذا الأخير مجرد خادم  مطيع لهم الثلاثة جميعا . وكان شعره تتمة لذاك الفقه و لتلك الزعامة ولذاك الفكر .و كيف يتحرجون من ذلك، وقد سبقه للشعر فقيه آخر صاحب مذهب في الإسلام  و ذو قرظ متين وحكم شعرية بليغة الا  وهو الإمام  الشافعي .
اذن لقد كان  إخلاص علال  لفلسطين  نابعا من إخلاصه للله ورسوله، وكذلك كان تبنيه للعروبة تبنيا غائيا  يروم إدخالها  به في بحر  الإسلام العظيم .
وفي هذا يقول :
عهدنا أمة العرب المجيدة تسير سيرة حسنة فريدة
لها الإسلام دستور مكين تعيش بظلاله ملل عديدة
تضامنها لدى كل القضايا يرينا جبهة العرب الوحيدة .
هذا الدمج القسري للعروبة عند علال في المنظومة الأوسع التي يمثلها الإسلام، سترافقه دوما وستتبدى جلية ناصعة في قصيدة شعارات، التي نظمها عقب نكسة 67 بحوالي شهرين،والتي راح علال يهاجم فيها  ضمنيا الأنظمة العربية “الثورية” التي تدعي الاشتراكية و التي تصادر حرية شعوبها وتحرمها من الديمقراطية، ليعتبرها المسؤولة  الاولى والأخيرة عن الهزيمة، فيقول :
كم قام فينا ثائر متمرد … زعم النجاح بحكمه المتعنت
غدا بالاستبداد يرفع شأنه … والاشتراكية التي لم تقنت
ماذا جنينا من حكومتهم سوى … كبت لحرية وذل هزيمة.
ما أروع هذا التحليل ياعلال ،وما أصدقك وما أشجعك. لقد كنت   سابقا لعصرك بحق وحقيق . وكنت لاتهاب  أيها الشاعر المغوار في قول الحق لومة لائم .
لكني لاأمضي دون أن اسجل ان علال في ثورته من أجل فلسطين  ، لم يك١fatن  ابدا بالشاعر المتشائم الذي يفت من عصد الأمة مهما ضعفت ،  فهاهو يعود لطبيعته  التفاؤلية ،و يحيي الأمل فيها ، ويعقد هذا الأمل على يقظة الشعوب الإسلامية والعربية و مدى نصرتها للقضية الفلسطينيةليقول:
إيه بني الإسلام في أرجائه … وبني العروبة والنفوس البرة
هاذي فلسطين تنادي نصركم … والقدس تنشدكم عهود الملة
قوموا انسفوا دايان في آماله … ولتنصروا الديان رب العزة
علال اذن  يربط ربطا متينا  بين القضايا المغربية وفلسطين والعروبة، ويصهر كل  هذه العناصر  في بوتقة الإسلام حتى تتخذ معناها عنده . هذا هو علال، وهذا هومذهبه في الشعر وفي النثر وفي السياسة والنضال أحب من أحب وكره من كره.

رسالة الشعر عند علال الفاسي
هذا الهم الرسالي الذي كان يحمله علال معه أينما حل وارتحل، كان يبيح له  أحيانا  إذا أراد ان يصور معنى أو ينحت صورة شعرية، ن يقصد إليها مباشرة، دون  تزيد أو تكلف ،لأنه كان لايريد شيئا آخر غير أن يخاطب الجماهير .لقد كان هذا الزعيم  يعتبر الشعر منصة خطابة إضافية لديه .و لذلك كان يستغلها ويستثمر فيها  أفضل الاستثمار ،  فيعمد لصياغة ابيات  يسهل تذكرها وحفظها و يسهل بالأساس تحويلها إلى شعارات وأناشيد وطنية يتغنى بها الوطنيون والثوار ، فهو قد كان معلم  الجماهير الذي يعدها ويسلحها  بالشعر لتبلغ  ما هو أعلى من الجمال الفني ، ألى وهو استرجاع الكرامة وبناء الأوطان القوية كمقدمة  لبعث الأمة التاريخية.
يمكن بهذا الصدد  القول ان هذه الطريقة في الشعر جعلت ان  هناك  شعرا علاليا مميزا ،لا تكاد تقرأه حتى تعرف ان صاحبه هو علال .

كان يضحي أحيانا  بالجمال الفني والجرس الموسيقي، حتى ليأخذ شعره طابعا خطابيا أو نثريا عند الضرورة التي يحددها النضال لديه  ، وكان يفعل ذلك  خصوصا لما يكون الخطب لايسمح بتاتا بان يتنمق  الشاعر ويتحذلق ويتكلف المحسنات . ولكن علال كان لبيبا   في كل  ذلك، فيعوض ويوازن  بجمال المعنى ونبل الغاية  وسحر شخصيته النضالية المحبوبة فتطير الجماهير جذلا وطربا لهذا الشعر الفريد الذي يحمل بصمة علال .

لذلك  لايقرأ شعر علال إلا وشخصيته وطيفه حاضران يرفرفان فوق القصيدة. ولذلك حين تربط هذا  الشعر بقائله تحس انه لم يكن  متكلفا بل تحسه صادقا سواء عبأ  بالاوزان  أو ازور وأعرض  عنها .كان هذا الشاعر مختلفا جدا ،كان يعلم أن له دالة  وسحرا على الجماهير يربآن به يغنيانه  في   الملمات عن التزيد من  الكلام المنمق، ويضمنان لشعره القبول ثم الخلود..أجمل مافي شعر علال انه يحافظ فيه على شخصيته السياسية ، فأنت تستطيع أن تلمسها فيه كما تلمسها في كتبه النثرية،تلافيه دائما  هو هو لم يصطنع له شعرا يشتط فيه بخياله، أو يعارض  فيه مايدعو له في نثره ،أو يتملق ويتزلف  به للعامة.كان يخط للجماهير شعرا  يصدر به عن افكار واحدة ،شعرا تستسيغه وتتذوقه وتحس به وتحوله إلى برنامج لها .كان شعرا مصورا للحقائق على الأرض سواء تعلق بالمغرب أو .. .لكن يبقى اهم ماشرحه لنا علال بشعره عن فلسطين ،هو ربطه ما بين الهزيمة وضياع فلسطين وبين  غياب العقلانية وضعفها لدينا كعرب ومسلمين،وهو ماأبانه في نقده الذاتي سنة 1949 في فصل ارتجال التفكير حيث رأى أن الصهاينة تفوقوا بوضع البرامج والخطط العقلانية التي واجهتها العرب في آخر لحظة بارتجال ودون تخطيط مسبق مكتفين بالتحسر والتشكي دون الاستعداد للموقف الحاسم والكفاح الاخير.
في تقريره المفصل للمجلس الوطني سنة 1967سيشير علال  لوصفة النصر  التي لازال العرب مترددين في تطبيقها قائلا ببلاغة الشاعر المفكر الفيلسوف : “لم يعرف التاريخ ان أمة ربحت حربا أو نجحت في سلم وبينها وبين حكامها عدم انسجام أو رابطة إرغام ” اي أننا باختصار- يقول علال –  لن ننتصر ابدا بالديكتاتورية بل سننتصر بالديمقراطية و ببناء الشعوب الحرة .
انه يقول لنا بشعره  أننا أضعنا فلسطين حين ضيعنا الديمقراطية ،فهل من متعظين وهل من عرب ومسلمين  راشدين؟.

من القاهرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News