تربية وتعليم

الرسوب المدرسي بين نظرة مجتمعية تؤزم “الكبوة” ودعوات لاستثمار التعثر المرحلي لإعادة اكتشاف الذات

الرسوب المدرسي بين نظرة مجتمعية تؤزم “الكبوة” ودعوات لاستثمار التعثر المرحلي لإعادة اكتشاف الذات

أعلنت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، قبل أسبوع، عن حصول 245 ألف و109 تلميذة وتلميذ على شهادة البكالوريا برسم اختبارات الدورة العادية. فيما سيجتاز، بعد أسبوع، 145 ألف و479 مترشحة ومترشحا ممدرسا الدورة الاستدراكية (5-8 يوليوز)، بالإضافة إلى المترشحين الأحرار.

وبين فئة الناجحين التي حسمت أمرها وانتقلت إلى مرحلة اختيار التوجيه لما بعد البكالوريا، وتلك التي حضيت بفرصة ثانية في إطار الدورة الاستدراكية، لم يتمكن باقي المترشحون من معانقة حلم البكالوريا هذه السنة، وهي فئة “الراسبين”.

ولعل الإشكال بالنسبة لهذه الفئة، لا يكمن فقط في تعثر دراسي، أجل لمدة سنة كاملة (أو ربما أكثر) الانتقال من مستوى إلى آخر، بل في النظرة المجتمعية والمعيقات النفسية، والتي قد تجعل هذه “الكبوة” تتجاوز كونها مجرد عثرة عابرة ومحفزة على عطاء أفضل، لتضع حدا للمسار برمته، ولا أدل على ذلك من أرقام الانقطاع عن الدراسة في صفوف تلاميذ الثانوي التأهيلي، بحسب المعطيات الرسمية، والتي بلغت 7.4 في المئة سنة 2022.

وتؤكد رئيسة شعبة اللغات والتواصل وعلوم التربية بالمدرسة الوطنية العليا للفنون والمهن بالرباط، إلهام صادوقي، على أن “الرسوب يعبر عن عدم القدرة على الإنجاز بحسب متطلبات المنظومة التعليمية في ظرفية معينة، ووفق نظام معين، وبخصوص مواضيع بعينها، وبالتالي فهو ليس نهاية الإنجاز. بل هو فقط نقطة في مسار التلميذة أو التلميذ، وليس المسار بأكمله”.

وأوضحت صادوقي أن “التمثل السائد في المجتمع المغربي يصور الرسوب على أنه نهاية مسار، مما يؤدي في الغالب إلى ضياع فرص التعلم والتراجع والجمود، وكأن الأمر يتعلق بنهاية العالم بالنسبة للراسبين”، مشددة على ضرورة تحجيم تأثير فكرة الرسوب على مصير التلميذ، على اعتبار أن “الربط بين عدم القدرة على النجاح في مستوى دراسي معين وشخصية التلميذ قد تكون له أضرار كارثية على الشخص المعني وعلى نظرته للحياة ككل”.

وأكدت الباحثة المتخصصة في المجال التربوي على “ضرورة التعامل مع الشخص الراسب بشكل إيجابي يرفع من استحقاقه، ويدعمه لطلب النجاح بشكل أفضل، ويمنحه الطاقة للإنجاز، على اعتبار أن لكل منا قدرات خارقة، ويكفي أن نعيد اكتشاف ذواتنا من خلال التفكير الإيجابي من أجل تجاوز التعثر وبلوغ إمكانيات الإنجاز غير محدودة”.

وتؤكد صادوقي على أن “الرسوب، وإن كان يعتبر أمرا سلبيا، فإنه قد يكون مفيدا للتلميذ بحيث يفتح المجال لاستقبال المراجعات الضرورية، أي أن الاعتراف بالفشل يتضمن إقرارا بأن المسار لم يكن جيدا، وهو ما سيدفع التلميذ إلى تحسين طرق التعلم والتعامل مع النفس ومع المعلومات بشكل أفضل”.

كما توضح بأن الرسوب في مستوى دراسي معين قد يكون “من الناحية التقنية، فرصة لاختيار التوجه الذي يناسب التلميذ، إذا ما كان المسار الذي لم يوفق فيه غير نابع عن اختيار شخصي، بل نتاج توجيه من المدرسة أو خيار محدد من طرف عائلة التلميذ. وبالتالي يعطي الرسوب فرصة للتلميذ للتعبير عن ذاته واختيار الطريق الأصوب”.

وشددت الباحثة، من جهة أخرى، على “أن التلاميذ وعائلاتهم ليسوا دوما مؤهلين للقيام بالمراجعات اللازمة من أجل تقويم المسار، مما يستدعي تدخلا من المدرسة على اعتبار أنها هي المؤهلة بيداغوجيا وتأطيريا لمساعدة التلاميذ المتعثرين على القيام بالتقييم اللازم ومواكبتهم من أجل استجلاء مكامن الخلل ونقاط الضعف، وبالتالي فتح المجال أمام وضع إيجابي ممكن”.

ويؤكد عبد الحكيم، وهو شاب اجتاز ست دورات لامتحان البكالوريا (عادية واستدراكية) قبل أن يتمكن من الحصول على الشهادة، على أن الرسوب لسنتين متتاليتين كان له الأثر البالغ في تغيير نظرته للحياة، وإن كانت تجربة يصفها بـ”القاسية” من الناحية النفسية وبالنظر إلى انتظارات الأسرة ونظرة المجتمع للتلميذ المتعثر.

فقد اعتمد عبد الحكيم لمدة ثلاث سنوات على نفس المقاربة ونفس المنهج في الاستعداد للامتحان، غير آبه بنصائح زملائه وتوجيهات أساتذته، قبل أن “يكسر” امتحان الفرصة الأخيرة “عناده”، ويقتنع أخيرا بتغيير طريقة الإعداد، مما مكنه من اجتياز الامتحان بنجاح ومعانقة حلم طال انتظاره.

ويعترف عبد الحكيم بأن “التعامل بشكل إيجابي مع تجربة الرسوب، بفضل الدعم الأسري، مكنه من اكتساب خصال لم يكن ليتملكها ويستوعب أهميتها في الحياة لولا الرسوب، ألا وهي الانفتاح على تجارب الآخرين وفضيلة الإنصات وعدم الانغلاق على الذات”، علما بأن هذا الشاب الثلاثيني قد تمكن من ولوج المجال المهني مباشرة بعد الاستفادة من تكوين من سنتين بأحد معاهد التكوين المهني بالدار البيضاء، قبل أن يتم دراسته بالموازاة مع العمل ويحصل على الإجازة ثم الماستر، وهو ما مكنه من الارتقاء من الناحية المهنية.

وفي سياق هذه التجربة، تؤكد صادوقي أن “الرسوب قد يعطي دروسا بليغة في الحياة، وقد يكون سببا في نجاح أكبر. وبالتالي، فإن التعامل الإيجابي مع الرسوب يحوله إلى تجربة إنسانية نتعلم منها، وتغير نظرتنا إليه ليصبح مجرد كبوة في مسار، تدفع إلى استحقاق أكبر”، داعية إلى ضرورة تركيز المنظومة التعليمية على بناء “الشخصية الناجحة” في المسار ككل، وليس فقط نجاح الشخص في اجتياز امتحان معين والحصول على شهادة ما.

هذا وإن كان “الرسوب” يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم تكرار المحاولة، وبالتالي إلى الهدر والانقطاع عن الدراسة، فإن هذا الموضوع يشكل تحديا حقيقيا بالنسبة للمنظومة التعليمية، يتجاوز مسألة التعثر الفردي ليسائل، من جهة، التوجهات والمناهج المعتمدة، ويحتم، من جهة أخرى، رفع الوعي المجتمعي بخصوص مسار التعلم، بما يفتح المجال أمام تمثلات مجتمعية أكثر إيجابية للتعثر والذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News