الإعلام الرسمي: الأزمة المفروضة

بعد مرور أكثر من أسبوعين على انفتاح استوديوهات دار البريهي وعين السبع والمنطقة الحرة، على استقبال الأصوات المعبرة عن مطالب حركة GENZ212 والسماح بمرور خطاب ينتقد الحكومة ويحاكم أداءها، نقف اليوم لنعيد النظر في هذا الانفتاح الذي انجلى، كما كان متوقعا، كخيط دخان انبعث من حريق متقد أُخفي عن القطب العمومي لأسبوع كامل.
ونستحضر هنا مثالا واحدا من القناة الثانية التي لفت انفتاحها جزءا معتبرا من الاهتمام؛ ففي البرنامج المباشر الخاص حول “احتجاجات الشباب بالمغرب” الذي بثته القناة الثانية في 3 أكتوبر 2025، قالت الإعلامية سناء رحيمي في تفاعلها مع عبد الجبار الراشدي كاتب الدولة عن حزب الاستقلال: “والله يلا كنعيطوا لكم حتى واحد ما كيبغي يجي.. الإعلام العمومي داير الدور ديالو” ثم واصلت: “لا يمكن أن يتصل بنا الوزراء من أجل تغطية أحداث التدشين، ثم يرفضوا التجاوب والحضور أو الجواب عن الاتصال في حالة الأزمة”.
بدا جليا أنها ليست جرأة ظرفية سمح بمرورها البث المباشر، بل هو توجه واع ومقصود، فالقناة الثانية أعادت نشر المقطع على حساباتها في وسائل التواصل الاجتماعي مصحوبا بعبارة بالبنط العريض: سناء رحيمي بخصوص أزمة التواصل الحكومي: “لا يمكن أن يقتصر التواصل مع وسائل الإعلام على لحظات التدشين فقط”…
وقد خلفت هذه “الجرأة” المفاجئة والمتكررة التي أفرزت عددا من البرامج الحوارية “الجريئة”، والمبثوثة على القنوات الرسمية المغربية، انبهارا صاحبته إشادة من قِبل الرأي العام الفعلي والتفاعلي/الافتراضي، فانبلج سؤالان مركزيان: هل هذه “جرأة” مؤقتة فرضتها ظرفية احتجاجية تشبه ما صاحب حالة حركة 20 فبراير 2011. وهل اتُّخِذ قرار “الجرأة” داخليا من قِبل المشرفين على التلفزيون الرسمي، أم هو تنفيذ لتعليمات فوقية؟
قد يبرز هنا الرأي القائل بأن جهة ما داخل السلطة (بالمعنى الذي يتجاوز الحكومة)، تصفي حساباتها مع الحكومة، أو مع الحزب الذي يقودها على الأقل، وقد استغلت التلفزيون الرسمي لتمرير ذلك. وقد يبرز رأي ثان يؤكد بأن السلطة كثيرا ما تلجأ إلى تنفيس الغضب المتفجر في الشارع عبر نقل جزء منه إلى الإعلام، في ما يشبه إيهاما بالإنصات، فالسلطة بعرضها للرأي الناقد في تلفزيون تموله و”تديره”، ترسخ فكرة تلقيها صوت الشارع وفهمها لفحواه إلى درجة عكسها لصداه في “إعلامها” حتى يسمعه سائر الشعب.
لن ندخل في تفكيك الرأي الأول، ما دمنا في معرض نقاش الإعلام السياسي، لا الصراع السياسي، لنركز على فكرة مركزية: علاقة التلفزيون الرسمي بالسلطة وشروط تحوله إلى تلفزيون عمومي ومدى تحقق هذه الشروط في الحالة المغربية.
يعرّف التلفزيون العمومي بأنه تلفزيون خدمة عامة، هدفه تجسيد وظائف الإعلام وتقديمها للمجتمع بما يتوافق مع تعدد مرجعياته الثقافية والسياسية والاجتماعية، استنادا على مبدأين أساسيين لا يمكن الحديث عن تلفزيون خدمة عامة دون تحققهما معا:
1ـ الاستقلالية: أي استقلالية وسيلة الإعلام عن تأثيرات السلطة، وانتقالها من ناطق رسمي باسمها إلى وسيلة إعلامية لها خط تحريري وسياسة مهنية تطبقها. فالتلفزيون العمومي هو بالأساس خدمة عامة عاكسة لقضايا المجتمع، وهذا ما يفرض عليه عرض رأي المجتمع مهما كانت درجة مخالفته لرأي السلطة الحاكمة، فهو أداة إعلامية تؤدي دور المراقبة على السلطات الثلاث لا التبعية لإحداها أو النطق باسمها؛
2ـ الحيادية وعدم التحيز: فالتلفزيون العمومي لا يؤدي وظيفته الأساسية إلا إذا وقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف وعديد التوجهات، فتبعية التلفزيون للسلطة من حيث الإشراف والتمويل، لا يعني تسخيره لتسويق آرائها وتمرير أفكارها وتبرير سياساتها، في مقابل حجب رأي المخالفين ومنعه، أو تسفيهه والتقليل منه في حال السماح بعرضه وإظهاره. فالتلفزيون العمومي يأخذ مؤداه من كونه مساحة متاحة لعموم الآراء والتوجهات بتنوع أشكالها واختلاف تلاوينها، ما يعني أن عليه أن يقف على مسافة واحدة من جميع القُوى الفاعلة، فما السلطة ومؤسساتها إلا جزء من هذه القوى، وبقية القوى هي المعارضة المهيكلة وغير المهيكلة، والتيارات المشتبكة مع الشأن العام باختلاف تسمياتها.
محصلة ذلك أن الإعلام العمومي ينبغي ويجب أن يكون مساحة لعرض الرأي المخالف والمعارض لرأي الحكومة/السلطة، في سائر أيام عمره الإعلامي، لا في لحظة استثنائية، فهو إعلام خدمة عامة لا إعلام أزمة، وبديهي -والحال هذه- أن يحتضن الرأي المؤيد للسياسات العمومية والمعارض لها، بما يشمل الخطاب الرسمي والشأن الديبلوماسي وتركيبة منظومة الحكم والقوانين التنظيمية والانتخابية. وليس خارقا للعرف الإعلامي مثلا أن يستضيف الإعلام العمومي رأيا مناهضا لتطبيع الدولة أو منتقدا لنموذجها التنموي المتبنى، أو مدافعا عن مقاطعة اقتراع انتخابي، فهذه رؤى يتبناها جزء من الشعب الذي يُفترض أن يعبر عنه إعلام الخدمة العامة.
هذه ليست افتراضات خيالية حالمة، بل واقع مشاهد، وهو حاصل في علاقة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بالسلطة الحاكمة، وقد ظهرت ملامح استقلالية البي.بي.سي للمرة الأولى إبان أزمة قناة السويس سنة 1956، حيث رفضت دعم بريطانيا إعلاميا في حربها على مصر، وعمدت إلى عكس موقف جزء من الرأي العام البريطاني الرافض للحرب. وتعددت بعد ذلك الخلافات بين الحكومة والهيئة إلى أن بلغت ذروتها غداة حرب العراق سنة 2003، حين قال تقرير لقناة بي.بي.سي إن الحكومة البريطانية “بالغت في تصوير خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية وأنها كذبت على الشعب وجعلته يقبل الحرب”، نقلا عن عالم أسلحة بريطاني. الأمر الذي أحدث خلافا بينها وبين الحكومة انتهى بمحاولة الأخيرة التدخل في السياسة التحريرية للقناة.
ولا بد من فتح قوس هنا للقول إن استحضار المثال البريطاني لاستقلالية إعلام الخدمة العامة عن السلطة في تناوله للشأن السياسي الداخلي، لا يعفي من الإشارة إلى التماهي الحاصل بينهما في تناول كل ما له ارتباط بجرائم دولة الإرهاب الإسرائيلية. فحدثينا -في هذا المقال- عن الشأن السياسي الداخلي لا عن قضية تتدخل فيها لوبيات ضغط عابرة للقارات.
إن مدخل الخروج من هذه “الأزمة” بعد تشخيصها، اضطلاع الأطراف الثلاثة المتدخلة في القطاع بدورها، والمتمثلة في المجتمع والسلطة والجِسم الإعلامي. فالمجتمع مطالب بالوعي بملكيته للتلفزيون العمومي وبدوره المتمثل في النِّطارةِ والرقابة، والسلطة مطالبة بالإقرار بأن وظيفة التلفزيون، خدمة مصالح المجتمع العامة، لا مصالحها الخاصة، والإعلامي المشتغل بالتلفزيون الرسمي مطالب بالوعي بأن مهمته تحسين الأداء لا تجسيد الولاء.
كما أن استدامة انفتاح قوس حرية التعبير هي الجسر الذي ينقل التلفزيون من زنزانة الرسمي إلى باحة العمومي، ويمثل الحد الفاصل بين كون التلفزيون خدمة عامة هدفها خدمة المواطن والوطن، وكونه أداة طيعة للتبرير والتحذير والتخدير، وفيصلا بين سلطة التلفزيون وتلفزيون السلطة، بين العمومي والحكومي، بين السلطة الرابعة والسلطة التابعة. ومراجعة ما جرى خلال فترة “الانفتاح” يؤكد أن لدى المشتغلين في التلفزيون الرغبة والقدرة على تحقيق هذا الانتقال، كل ما ينقص هو الإرادة والجرأة للخروج من الأزمة المفروضة التي لا تنفرج إلا في زمن الأزمة.
وفي انتظار ذلك.. نستعير ونحاكي عبارة شهيرة لرئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران في سياق مختلف ومن أجل مرام مختلفة لنقول: “آن الأوان لأن ترفع الدولة يدها عن الإعلام الرسمي حتى يستحيل عموميا”.





