أنس.. الشَّرَف

منذ بدء حرب الإبادة، لم تعد الكتابة بالنسبة للكثيرين قادرة على التبليغ. لم تعد اللغة حاملا لكل ما يحدث. هو الإحساس ذاته بعد كل مجزرة؛ ذلك الإحساس بالعجز، تلك الصدمة التي تفقدنا القدرة على تشكيل المعنى، والتي لا يمكن سردها بشكل مباشر لأنها تتجاوز اللغة وتتجاوز الزمن.
كيف يمكن أن نستعيد صرخة حقيقية من خلال صرخة مكتوبة؟ فما بال الجثث والأشلاء وصور الأطفال والخراب والفناء. ما أمرَّ اللغة الآن وما أفقرها، وما أضيق باب الأبجدية.
قصة أنس أشبه بسيناريو يعلم المخرج والكاتب والمشاهد بنهايته، لكن لا أحد يريد أن يصدق، أو يتحرك لتغيير هذه النهاية. كل المؤشرات تسير في اتجاه أمر كان مقضيا. وفي الوقت الذي كنا ننتظر فيه أن يبشرنا أنس بخبر نهاية الحرب، كان خبر استشهاده أسبق.
قدم نفسه قربانا للحقيقة والحرية والكرامة، شامخا في حياته، شامخا في استشهاده، شامخا في حديثه، شامخا في صمته. كان جبلا من جبال مخيم جباليا كما وصفه أحد زملائه، وكأن كل ما نقل لم يكن كافيا، وكأنه اختار أن يقدم نفسه كأخر دليل لصك الإدانة.
رحل أنس ورحل معه زميله المصور محمد قريقع. بعض المهن تظل في الظل، في الحياة كما في الموت، كان قريقع ومصورين آخرين العيون التي ينقل بها الصحفيون الواقع والذاكرة التي ستخلد لكل ما حدث.
ختم أنس وصيته راضٍيا بقضاء الله، ثابتا على المبدأ حتى آخر لحظة، داعيا أن يكون دمه نورا يضيء درب الحرية لشعبه، ماضيا على العهد دون تغيير أو تبديل. أوصى خيرا بابنته شام، التي حلم برؤيتها تكبر وحلمت هي أن يعود إليها سالما، شام التي خرجت قبل أشهر من اغتياله خائفة على أبيها من القصف، تناشد العالم لإيقاف الحرب، أمنيتها أن تعيش مثل بقية أطفال العالم.
ولأن الأحداث ينبغي أن تظل شاهدة ناطقة عصية على النسيان والتقادم، اختار زملاؤه المضي في درب الحقيقة، ينتظرون دورهم، أبين محتسبين غير آبهين، مستمرين في التغطية، يترقبون ما سينزل من السماء، صواريخ أو مساعدات.
برحيل أنس وقريقع وثلاثة من زملائهم، وقبلهم اسماعيل الغول وأزيد من 230 صحفيا آخر، بالاسم والصفة، بطموحاتهم وأحلامهم، يكون عدد الصحفيين الذين استشهدوا في غرْة منذ السابع من أكتوبر حتى الآن قد تجاوز عدد قتلى الصحفيين في الحرب العالمية الأولى والثانية وحرب فيتنام وحرب البلقان وحرب أفغانستان مجتمعين. وهذا أوضح دليل على أن أكثر ما يزعج الاحتلال هو الحقيقة.