رأي

بين بنهادي وبوعبيد.. حين يلتقي الخطان المتوازيان لضرب المشترك بين المغاربة

بين بنهادي وبوعبيد.. حين يلتقي الخطان المتوازيان لضرب المشترك بين المغاربة

قرأنا في الدروس الأولى للرياضيات أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان. لكن الأقدار شاءت أن نصبح شهود عيان على تحور هذه المسلمة، بعد التقاء من يعتبرون نقيضي بعضهم البعض لغاية مشتركة: التحامل على حزب الحركة الشعبية من جهة وتوجيه السهام إلى المشترك الذي يجمع بين كل المغاربة من جهة ثانية.

لقد انطبقت مقولة شائعة عند إخواننا في المشرق العربي”إيه لم الشامي على المغربي” على موقفي الأستاذين الفاضلين علاء الدين بنهادي وعلي بوعبيد، على الرغم، وعلى مايبدو، لا تقارب بينهما، ولكن ها هما مجتمعان على قلب رجل واحد من أجل تحريف الكلم عن مواضعه، وبث التفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

البداية مع الدكتور علاء الدين بنهادي، الذي يكون  أول ارتسام يخرج به كل من استمع إلى محاضراته هو امتلاكه لناصية لغة الضاد بشكل يبعث على الاستحلاء. إلا أنه و مهما كان رونق وبديع الوعاء الذي هو اللغة، فإن هذا لا يكفل صدقية وموضوعية وتماسك المعنى بل وحجة المضمون بتعبير رائد اللسانيات الحديثة نعوم تشومسكي.

هي الصدفة وحدها قادتني إلى تصفح الحلقة 17 للدكتور بنهادي على اليوتيوب، والصدفة في الفضاء الرقمي وتحت سطوة الذكاء الاصطناعي خير من ألف ميعاد.

سحر اللغة والسجع في الخطاب جعلاني أصغي وأسترق السمع لمدة فاقت الثلاثين دقيقة، غير أن الوعاء لم يحمل جديدا غير استعراض وقائع تاريخية اختلف في صحتها  الركبان. استهلّها الدكتور الفاضل بالتعرض إلى حقائق تخفي كل الباطل ولو عن حسن نية. هي سردية مزج فيها الدكتور بين  الرواية بدون عنعنة وتوزيع أحكام الإدانة وصكوك الغفران يمينا وشمالا بدون قراءة واقعية فاحصة ومتفحصة للوقائع أو تحليل موضوعي قوي الحجة والإقناع.

ومنذ استهلاله في السرد والحكي على منوال المقامات، يتبادر إلى الأذهان أن الدكتور الفاضل يبشر بمشروع سياسي وفكري جديد على إيقاع “النظرية العالمية الثالثة” للعقيد الفقيد، وكاد حضرته أن يخون كل الأحزاب والأطياف والمذاهب والتيارات، ويهيئ السامعة لنصب المشانق في الميادين والساحات، ويستبعد استحضار المعاكسة والإكراهات.

لقد نازع الدكتور الألمعي المطوع للغة والبيان في شرعية  كل المؤسسات والأشخاص، وأبدع في الترويج لنظرية جديدة مبنية على تغيير الدول بتغيير الأشخاص عوض مبدأ الاستمرارية التي لا تعني السكون والجمود، مضيفا إلى ذلك التشكيك في طوية كل من تعاقب على الخوض في الشأن السياسي منذ أفول الدولة السعدية إلى عهد الإعداد للمونديال.

ولأن الدكتور بنهادي يروج لمشروعه السياسي والمجتمعي باعتماد تقنية التقطير goute à goute المتبعة في السقي في وفاء وتطبيق حرفي لمقولة “نقطة نقطة كيحمل الواد”، فإن ما يفهم من منهجه وقوله سعي حثيث إلى تبخيس واستئصال كل المكتسبات التي حققها المغاربة منذ أكثر من 33 قرنا، ووأد القيم المشتركة من تضامن وتعايش وتسامح، تلك القيم التي حصنت الوطن من كل الرياح العاتية شرقية كانت أم غربية، وجعلته صرحا منيعا على كل محاولات التفتيت والتفرقة.

كل ما قاله الدكتور بنهادي على امتداد 29 دقيقة وزيادة “كوم” وما ختم به بعد الدقيقة 30 من إسقاط متعسف للوهم والتغليط “كوم ثان”.

لقد أصدر فضيلته الحكم النهائي بدون الاستناد إلى محضر أو شهود، في حق نشاط فكري نظمته أكاديمية لحسن اليوسي مؤخرا في الرباط، وتضمن صك الاتهام “جريمة انفتاح” الدراع الفكري لحزب الحركة الشعبية على كل المغاربة مهما تباينت معتقداتهم الدينية المكفولة بالنص القرآني” قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” سورة البقرة. والمكفولة أيضا بالدستور في الفصل 41 “الملك، أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية”.

إلا أنه على الرغم من كل هذه النصوص، يحاول الدكتور بنهادي أن يقنعنا بأن المعتقد الديني مبرر لإسقاط الوطنية والانتماء على مغاربة عاشوا على قيم تامغرابيت المتفردة حتى قبل ظهور الإسلام. “فجاكي كادوش” وغيره من إخواننا المغاربة من معتنقي الديانة اليهودية هم إخوان في الوطن.

وعلى منوال الدكتور بنهادي، دخل السيد علي بوعبيد، نجل الزعيم التاريخي الاتحادي المرحوم عبد الرحيم بوعبيد على الخط،  في تصريحات لا يمكن تصنيفها ضمن خانة الرأي أو الموقف السياسي، بل هي خطيئة مفاهيمية وانزلاق خطابي ينهش جوهر الدولة ومفهوم الوطنية في آن واحد.

فحين يُختزل الانتماء إلى الوطن في موقف ظرفي من نزاع خارجي، أو يُشترط التعبير عن “الوطنية” بمدى التفاعل مع مأساة لا تمت بجذورها إلى المجال الوطني، نكون أمام انهيار مروع لمفهوم المواطنة وتحويله إلى ساحة تصفيات إيديولوجية.

الوطنية ليست “استمارة” تُملأ حسب مزاج اللحظة أو هوى الخطاب الشعبوي. بل هي انتماء قانوني، شعوري، تاريخي، ثقافي، وتعاقدي مع الدولة، كما يحدّدها الدستور، وليس كما يتخيلها من يعيشون في ظلال الفشل السياسي ويبحثون عن كبش فداء لأزماتهم.

إخواننا المغاربة ذوو المعتقد اليهودي (وليس التوجه الصهيوني)  ليسوا في موقع مساءلة، لأنهم لم ينقطعوا  يومًا عن هذا الوطن، لا في السرّاء ولا في الضراء. وإذا كان اقتراح الاحتفال بعِيد ديني تقليدي يُفهم كـ”خيانة شعورية”، فهذا جهل عميق بالتاريخ الاجتماعي للمغرب، حيث تعايشت الخصوصيات الدينية والثقافية على مرّ القرون دون أن تُربك صرح الوطنية أو تُقايض الانتماء.

إن جرّ الخطاب الملكي إلى مستنقع الابتزاز السياسي يمثل محاولة خطيرة لتحريف المعنى السيادي للمواقف العليا للدولة. الملك، بصفته أميرا للمؤمنين وضامنا للحريات الدينية ورمزا لوحدة الأمة، لا يُستعمل كآداة في صراعات عقيمة، ولا تُأوَّل خطبه لتخوين هذا أو ذاك. المواقف الملكية تُعبر عن الدولة، لا عن نوازع الغضب الإيديولوجي ولا عن الحسابات الشعبوية، ومن العبث استحضارها متى شاء البعض وتحريفها متى أملتها نزواته.

ثم ما الذي يمنح الحق في قياس وطنية المواطنين وتوزيع صكوك الولاء والانتماء؟ أليس الأجدر إن كنا فعلاً معنيين بالوطن، أن نسائل ذواتنا أولًا عن طبيعة إسهامنا في بناء هذا الوطن، عوض أن نتفرغ لإصدار الأحكام السخيفة على مواطنين خدموا البلاد في الصمت والعلانية.

ومتى أصبح الانتماء إلى الوطن رهينًا بإعلان الولاء لقضية خارجية؟ وهل يقاس حب الوطن بلون العاطفة أم بعمق الالتزام؟ إن الوطنية الحقيقية لا تحتاج إلى تظاهرات انفعالية، بل إلى مواقف مسؤولة تحفظ التعدد وتحمي الدولة من النزعة الإقصائية التي تهدد كيانها.

إن ما تلفّظت به، يا سيد بوعبيد، لا يعكس حرصًا على فلسطين ولا غيرة على المغرب، بل يعكس عمق الأزمة في العقل السياسي الذي لم يتحرر بعد من منطق التخوين والاصطفاف الطائفي. هذا الخطاب ليس فقط مسيئًا للمغاربة اليهود، بل هو طعنة في قلب العقد الوطني الذي لا يميّز بين مواطن وآخر إلا بمقدار التزامه بالقانون وخدمته للصالح العام.

الوطنية لا تُقاس على أعتاب غزة، ولا تُصنّف على درجات الولاء لعاصمة أو تلك، ولا تُشترط بعقيدة أو موقف خارجي. الوطنية هي هذا الكيان المركّب الذي يحتضن المختلف والمتنوع دون أن يبتلعه،  هي هذه القدرة على أن نعيش معًا دون أن نحاكم بعضنا، وأن نحتفل باختلافاتنا دون أن نُتَّهَم، وأن ننتمي دون أن نُفَسَّر أو نُبَرِّر.

ولذلك نقول: كفى من الاستهتار بمفهوم الوطنية، كفى من التنكيل بالعيش المشترك، كفى من توظيف القضايا العادلة مطية لتفريغ العجز السياسي في أعراض الناس. هذا الوطن لا يُدار بلغة الاتهام، بل بحكمة الدولة التي هي أوسع وأرقى من انفعالات المِزاج الإيديولوجي.

وفي الختم، نقول للأستاذين إذا كانت منهجية التجني تفرض على أصحابها (متأسليمن ومتياسرين) خلط الأوراق وترديد الشعارات التي لا تعدو كونها ظاهرة صوتية، فإننا في الحركة الشعبية كالغالبية العظمى من المغاربة،  لن نقبل الوصاية من أي جهة مهما كانت غير الوطن الذي يجمعنا. المغرب أولا.. المغرب ثانيا.. المغرب ثالثا إلى ما لا نهاية.

كما لن نقبل سلطة منع حرية التعببر باللسان أو بالقلم أو بالبوق أو الكمان أو البندير وبكل اللغات.

هو فتح لنقاش راق وهادئ ومسؤول من منطلق الإيمان بأن الاختلاف لا يفسد للود قضية. وهي دعوة مفتوحة للدكتور علاء الدين بنهادي والسيد علي بوعبيد لتشريفنا في ندوة فكرية في القادم من الأيام. في إطار فعاليات أكاديمية لحسن اليوسي.

دعاؤنا الصادق: الرجوع لله يا بوعبيد ، والهداية لبنهادي.

الأمين العام لحزب الحركة الشعبية-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News