من مغرب 2030 الحدث، إلى مغرب 2030 المؤسسة

بعد متابعة رصينة وقراءة متأنية لكل ما كُتب حول مؤسسة “مغرب 2030” التي خرجت إلى حيز الوجود، بعد استىيفائها لمراحل المسطرة التشريعية، خلال شهر يوليوز الفائت، ارتأيت في هذا المقال أن أتناول الموضوع من زوايا متعددة لتبيان الأهمية الاستثنائية لهذه المؤسسة الفتية بعيدا عن النظرة التقليدية التي تركز فقط على الجوانب الرياضية، متغافلة عن كون المؤسسة هي في الأصل ، وحسب إرادة المشرع، إطار مؤسساتي لتنسيق الأوراش الكبرى، من بناء الملاعب وتأهيل البنيات التحتية إلى تطوير النقل الجهوي والدولي.
إن هذه المؤسسة، التي تمثل تطورا جديدا في مسار المغرب الثابت نحو المستقبل، ليست مجرد هيكل تنظيمي لإدارة الأحداث الرياضية الكبرى، بل هي ورشة استراتيجية ذات أبعاد متعددة تسعى لتحقيق تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة.
وقد جاء تأسيسها في وقت حاسم، حيث يشهد العالم تحولًا في كيفية استثمار الأحداث الرياضية الكبرى كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة، وبذلك، فهي تمثل خطوة في العمق ضمن مسار التنمية الشاملة للمغرب، من خلال ربط الرياضة بالاقتصاد والمجتمع المدني بشكل غير مسبوق.
لا شك أن فكرة إنشاء المؤسسة انبثقت في إطار سعي المغرب لاستضافة كأس العالم 2030، وهو حدث رياضي ذو أهمية عالمية كبيرة. لكن، وعندما نوسع زاوية النظر، يتبين من الوهلة الأولى أن هذه المؤسسة تتجاوز حدود تنظيم هذه الفعالية الرياضية إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فهي تشكل حقا نموذجا لتطوير الاقتصاد الرياضي في المملكة، وجعله قاطرة لتطوير باقي قطاعات النسيج الاقتصادي الوطني بما يسهم في نهاية المطاف في تعزيز التماسك الاجتماعي وتكريس قيم المواطنة والمدنية الفاعلة.
لقد أدرك المغرب، من خلال إطلاق هذه المؤسسة، أن تنظيم المونديال لا يجب أن يُختزل في بناء ملاعب أو تسويق صورة سياحية، بل يجب في المقام الأول أن يكون فرصة لإحداث طفرة نوعية في الاقتصاد الوطني.
ولعل التجارب الدولية تؤكد مشروعية هذا الطموح الكبير وقابليته للتحقق على أرض الواقع ؛ ففي إسبانيا، أدى تنظيم مونديال 1982 إلى تسريع تحديث البنية التحتية وتحقيق نمو اقتصادي في حدود 1.6% خلال السنوات التالية، بل كان أيضا عاملا مؤثرا في عملية الانتقال الديموقراطية في البلاد، أما في البرازيل، فرغم التحديات وبعض الانتقادات التي تلت استضافتها للعرس الكروي العالمي ، فقد شهد اقتصادها انتعاشا قُدر بأزيد من 30 مليار دولار كمداخيل مباشرة وغير مباشرة من مونديال 2014. وفي جنوب إفريقيا، سجل الناتج الداخلي الخام ارتفاعا ملحوظًا بنسبة 2.9% بعد تنظيم نسخة 2010، مدفوعا بالتحسن المسجل في أداء قطاعات النقل، السياحة، والخدمات.
وعليه، فإن المشاريع المقررة بعد المونديال – من توسعة المطارات، وربط المدن بشبكات نقل عصرية، إلى بناء وحدات فندقية ومناطق لوجستيكية جديدة – لا تمثل مجرد تحسينات عمرانية قائمة ومرتقبة، بل أساسا لاقتصاد أكثر جذبا للاستثمار، وأقدر على امتصاص البطالة وتنشيط الاقتصاد الوطني وتشجيع الاستهلاك الداخلي.
لقد تحدثنا في سياق سابق عن المغرب كنموذج فريد في استثمار القطاع الرياضي كرافعة للتنمية الشاملة، ولعل ما يثير الإعجاب حقاً في هذا النطاق ليس فقط حجم الإنجازات المحققة، بل الرؤية الاستراتيجية المتكاملة التي تجعل من الرياضة محركاً حقيقياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اذ يعتبر الاقتصاد الرياضي اليوم أحد أهم الأدوات التي يعكف المغرب على استغلالها لتحقيق طموحاته الوطنية في بناء بنية تحتية قوية، وخلق فرص عمل، وتحفيز الاقتصاد بشكل عام.
فعندما نتأمل في المشهد الرياضي المغربي اليوم، نجد أنفسنا أمام تحول جذري في مفهوم الاستثمار الرياضي، إذ لم تعد الرياضة مجرد نشاط ترفيهي أو وسيلة للترويح عن النفس على أهمية هذه الجوانب ، بل أصبحت صناعة متكاملة تساهم في الرفع من الناتج المحلي الإجمالي، وخلق فرص العمل، استقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا:
لماذا لا يرى البعض في هذا الورش أولوية وطنية؟ ولماذا يُختزل المشروع لدى كثيرين في أبعاده الرياضية الصرفة؟
لا مراء في أن الجواب يكمن في ضعف الوعي الجماعي بأهمية الاقتصاد الرياضي ودوره المتداخل مع باقي القطاعات، وهنا تأتي أهمية مؤسسة “مغرب 2030” في ترسيخ هذا الوعي، ليس فقط لدى الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، بل أيضًا وأساسا داخل المجتمع المدني والرأي العام وعموم المواطنات والمواطنين.
وحتى تتضح معالم هذا الجواب بشكل أوضح، لا بد من التأكيد على أن تأثير المؤسسة لا يقتصر فقط على الجانب الاقتصادي، بل يمتد أيضا إلى السلوك المدني للمواطنين وتصرفاتهم وتفاعلاتهم وردود أفعالهم في الفضاءات العامة والخاصة،.
إن ما يميز هذه المشاريع الكبرى هو قدرتها الكامنة والظاهرة وتأثيرها المحتمل والمرغوب على تغيير عقلية المجتمع والافراد، من خلال تعزيز الوعي المدني وتشجيع القيم الاجتماعية المرتبطة بالرياضة مثل التعاون والانضباط والمثابرة واحترام الآخر كيفما كانت أصوله العرقية، ومعتقداته الدينية، واختياراته السياسية، وميولاته الثقافية.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن أدوار المؤسسة لا تقتصر على تنظيم الفعاليات الرياضية، بل يرجى منها أن تكون منظومة جامعة لبناء ثقافة مدنية/مواطنة تشارك فيها جميع الفئات الاجتماعية، وتعكس تحولًا في السلوك المدني تجاه الالتزام بالمصلحة العامة والعمل الجماعي.
وعليه، يمكننا الربط بين دور المؤسسة في تعزيز القيم المدنية والمجتمعية، وبين ما كُتب حول أهمية هذا النوع من المشاريع في تشكيل مستقبل المجتمعات وتركيبة مخيالها وضميرها الجمعي.
إن الربط بين هذه المؤسسة والسلوك المدني يمثل جانبًا أساسيًا لفهم دورها في المجتمع المغربي، فما تتطلع إليه على الخصوص هو إشراك المواطن في تحقيق أهداف وطنية كبرى، بما يعكس مدى قدرة هذا النوع من المشاريع على التأثير في توجهات المجتمع بشكل إيجابي.
فكلما كان المواطن المغربي على وعي كامل وإدراك شامل لإهمية الحدث، وكلما زاد انخراط الناجع في إنجاحه، كلما تجسد هذا التحول في شحذ الهمم وإذكاء الوعي الوطني الذي يدفع إلى بناء مجتمع مدني فعال وقادر على التفاعل البناء مع التحديات الكبرى.
وعليه، فالمؤسسة لا تقتصر على البعد التنظيمي الذي تبقى أهميته في حد ذاته قائمة، بل تتجه نحو بناء ثقافة مواطنة جديدة، حيث تُصبح القيم الرياضية الكونية جزءا من السلوك المجتمعي.
إنها إذن تستثمر في الإنسان قبل الإسمنت، وفي القيم قبل الملاعب.
ولعل الأهم من كل ذلك أن المغرب، عبر هذه الخطوة، يؤسس لنموذج فريد ملهم جدير بالاقتداء في المنطقة، نموذج يربط بين الرياضة والتنمية، بين الدولة والمجتمع، وبين الحدث والهدف.
وإذا كان النجاح والتوفيق حليف بلدنا العزيز، المغرب، في تحويل لحظة المونديال إلى رافعة راسخة لإعادة تأهيل وتحديث اقتصاده وتقوية لحمته وبنيته الاجتماعية، فسيكون قد قدّم درسًا للدول النامية حول كيفية استثمار الرياضة لأهداف استراتيجية.
ومما سبق لا نغالي أبدا إذا قلنا إن “مغرب 2030” هو بالفعل مشروع حضاري لأمة عريقة يطمح لإعادة رسم ملامح مغرب جديد، مغرب يجيد توظيف ملكته في التكيف والملائمة مع متطلبات العصر، ليكون أكثر تنافسية، أكثر عدالة، وأكثر إشعاعا في عالم لازال يتلمس طريقه في إعادة التشكل وسط ما يسمه حاليا من اضطراب وعدم يقين في الحاضر والمستقبل.