ثقافة

اليحياوي يبسط مفهوم “الإنصاف” في معرض الكتاب

اليحياوي يبسط مفهوم “الإنصاف” في معرض الكتاب

قال مصطفى اليحياوي، أستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، إن الإنصاف لا يتحقق بالحسم بالقطع القانوني، وإنما بإرادة إحقاق العدالة الاجتماعية المعترفة باستثناء حالات اللامساواة الحاطة بالكرامة الإنسانية والمضعفة لإمكانية ولوج الضعفاء إلى حقوقهم من دون دعم وسند وإنصات إيجابي.

وأضاف اليحياوي خلال تأطيره لدرس افتتاحي عنوانه “ما الإنصاف” ضمن مشاركته في فعاليات الدورة الـ30 للمعرض الدولي للكتاب والنشر في نشاط من تنظيم مؤسسة وسيط المملكة تحت شعار “الجامعة والمجتمع المدني روافد داعمة لثقافة الوساطة”، أن تلك كلها قواعد الديمقراطية الإدارية المبنية على المعاملة باللين المستدركة للحسم بحرفية النص القانوني.

ويقول في السياق ذاته إن “هذا هو المدلول الأسمى للوساطة بوصفها ممارسة محايدة تستدعي الضرورة الأخلاقية، لكنها بطبيعتها ذات طبيعة مركبة ملتبسة في وظيفتها مما يعقد وظيفتها البينية، إذ من جهة، الأقوى في السلطة محكوم بالقانون غير أنه قد يستثمره على سبيل التراتبية المؤهلة لإعمال غير مستقيم لمبدإ الفيبيري “القهر المشرعن”، ومن جهة أخرى، المواطن، الفرد، غير مترفع على ما اعتبره ابن رشد بالنفس المغالبة للكمال، أي القانون المجرد عن نزوات الحرية الطبيعية.

وتطرق اليحياوي في تأطيره إلى مفهوم الإنصاف في الفكر الفلسفي، مبرزا أن المعنى المعجمي اللاتيني يجعل للإنصاف بعدا أخلاقيا وقانونيا في نفس الآن، كما يشير إلى ذلك الفقيه القانوني الروماني Cicéron في كتابه (De officiis, I, 10) حيث يعتبر الإنصاف عدالة متأرجحة مسنودة إلى الاعتدال والرأفة والإنسانية وهو ما يجعلها محيدة على التطبيق الآلي والحرفي للقانون.

ويشير إلى أنه في معجم Le Littré (fin XIXe siècle) يحمل المعنى المستعمل في العصور الأنوار في أوربا الغربية على البعدين معا: المساواة المعدلة، والعدالة المعتدلة، حيث العدالة الطبيعية مؤسسة على مساوة جميع الأفراد في الحقوق من جهة، وعلى مشاعر الإنسانية والعدالة المتعقلة المخالفة للعدالة الحرفية الصارمة.

أما في معجم مقاييس اللغة عند ابن فارس، يقول: “فجذر النون والصاد والفاء فأصلان صحيحان: أحدهما يدل على شَطْر الشيء ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم “لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق ما في الأرض جميعا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه”، ويقال إناء نصفان، أي بلغ الماءُ نصفه؛ والمعنى الآخر على جنس من الخدمة والاستعمال”.

ويضيف: “على هذه المعاني الثلاث، جرى عليه استعمال الفقهاء العرب للإنصاف، حيث فرقوا بينه وبين العدل بقولهم:
مَعنى العَدلِ لُغةً: العدل أصلٌ يدُلُّ على استِواءٍ، والعَدلُ مِنَ النَّاسِ: المَرضيُّ المُستَوي الطَّريقةِ، أو هو الذي لا يميلُ به الهَوى فيجورَ في الحُكمِ، والعَدلُ: الحُكمُ بالاستِواءِ، وأيضًا العَدلُ: هو ما قامَ في النُّفوسِ أنَّه مُستَقيمٌ، وهو خِلافُ الجَورِ، مِن عَدَل يَعدِلُ فهو عادِلٌ، ويُقال: يومٌ مُعتَدِلٌ: إذا تَساوى حالَا حَرِّه وبَردِه، وكذلك في الشَّيءِ المَأكولِ. ويُقالُ: عَدَّلتُه حتَّى اعتَدَل، أي: أقَمتُه حتَّى استَقامَ واستَوى”.

وفسر اليحياوي مَعنى العَدلِ اصطِلاحا، بالقول “أن تُعطيَ مِن نَفسِك الواجِبَ وتَأخُذَه، وقيل هو: (إعطاءُ كُلِّ شَيءٍ ما يستَحِقُّه.) وقيل هو: (استِعمالُ الأُمورِ في مَواضِعِها وأوقاتِها، ووُجوهِها ومَقاديرِها، مِن غَيرِ سَرَفٍ ولا تَقصيرٍ، ولا تَقديمٍ ولا تَأخيرٍ)”.

أما مَعنى الإنصافِ اصطِلاحًا، قال : “الرَّاغِبُ: الإنصافُ هو مُقابَلةُ الخَيرِ مِنَ الخَيرِ، والشَّرِّ مِنَ الشَّرِّ بما يوازيه. وقال زين الدين المانوي الشافعي الإنصافُ في المُعامَلةِ: العَدلُ بأن لا يأخُذَ مِن صاحِبِه مِنَ المَنافِعِ إلَّا مِثلَ ما يُعطيه، ولا يُنيلَه مِنَ المَضارِّ إلَّا كما يُنيلُه، وقيل: هو استيفاءُ الحُقوقِ لأربابِها، واستِخراجُها بالأيدي العادِلةِ والسِّياساتِ الفاضِلةِ. وقال ابنُ عادِلٍ: حَقيقةُ الإنصافِ إعطاءُ النِّصفِ؛ فإنَّ الواجِبَ في العُقولِ تَركُ الظُّلمِ على النَّفسِ وعلى الغَيرِ، وذلك لا يحصُلُ إلَّا بإعطاءِ النِّصفِ؛ لكي يُسَوِّيَ بَينَ نَفسِه وبَينَ الغَيرِ، وقال النَّيسابوريُّ: حَقيقةُ الإنصافِ إعطاءُ النِّصفِ، وفيه التَّسويةُ بَينَ نَفسِه وبَينَ صاحِبِه”.

أما فلسفيا، يوضح أن معنى الإنصاف عند أرسطو شكل خاص من أشكال إعمال العدالة الذي لا يطاوع التطبيق الحرفي للقانون، باعتبار أن غايته تصويب واستدراك بالمصاقبة لعمومية وصرامة النص القانوني مع ما تقتضيه السياقات الاجتماعية والسياسية وما توجبه القيم الأخلاقية المتعالية على فريضة تبين الصائب من الخطإ بالإعمال الخطي للقاعدة القانونية.

ويضيف أن “الحجة في هذا القول عند أرسطو أن العلة المقتضية للإنصاف كون القانون بطبيعته عام، وأن إعماله يصطدم بعدم مناسبة قواعده للأحوال الخاصة، حيث السياق يستلزم تدارك ما كان المشرع قد لجأ إليه من تأطير للصواب والخطإ في النظر فيما تقتضيه العدالة في الفصل ببيان النص ومنطوقه. بالجملة، الإنصاف استدعاء لروح النص القانوني وللغاية الفضلى من إعماله من باب إحقاق الحق وإقرار العدل والعدالة بوصفهما الأصل الذي أوجد الحاجة إلى تنظيم الاجتماع الإنساني وتقنين إرادات الأفراد فيه”.

ولأن المبتغى إحقاق الحق لا من باب الصرامة النصية وإنما من باب الحمل على سبيل التأويل، فإن الإنصاف في نظر أرسطو هو اختيار في قراءة الغاية الأخلاقية من القانون على سبيل المفاضلة بين العدل في معناه المطلق الصارم والعدالة بمعناها الاستدراك المتناسب والسياق الاجتماعي المستحسن للأخذ بالضرورة المتعالية على سبيل رفع المظلمة على الفرد المحتاج إلى العون للبلوغ إلى ما اشترطه الاجتماع الإنساني من قيم وفضائل، يقول في تحليله.

ويؤكد أنه “بهذا المعنى، فالفرق بين العادل والمنصف ليس الجيد من غيره، وإنما التمييز بين العادل حينما يكون مطلقا، والمنصف حينما يكون نسبيا مناسبا لواقع بوصفه حالة متفردة، مردفا أنه “ما يفهم من قول أرسطو حول الإنصاف: أولا أن شكل خاص للعدالة، وثانيا أن استدراك للقاعدة العامة، وثالثا أنه تقدير عادل مبني على مناسبة المعيارية المجردة للقاعدة مع الوقائع والأحوال الفردية، وأخيرا أن الإنصاف عدالة قائمة على إعمال التمييز المحكوم بالذكاء العملي”.

ويقول إنه بحسب الفارابي وابن رشد في باب العدل والعدالة، فالرابط بينهما “المقصود بالعدل إعمال العقل بالمطلق بدون استدراك، وأن المقصود بالعدالة ما لا يناسب هذا المعنى المقتضي لبيان العروة الوثقى بين العدل والمحبة، وإنما العدل التابع للمحبة، والمحبة في هذه المدينة (أي مدينة الفاضلة عند الفارابي) تكون أولا للاشتراك في الفضيلة، أي قسمة الخيرات المشتركة (السلامة والكرامة والأموال) بين أهل المدينة، وحفظ ما تم قسمته عليهم فضلا على ذلك أن النقص في ذلك جور على القيام بهذه الملكات عن طريق ترجمتها إلى الفعل؛ وهنا للعدل مدلول التحلي بخصال فاضلة تدور حول مفهوم “التعقل المدني، أي جودة الروية في تدبير المدينة”. (الفارابي: فصول منتزعة، تحقيق فوزي متر نجار)”.

وقد ميز ابن رشد في “الضروري في السياسة؛ مختصر كتاب السياسة لأفلاطون”، ترجمه أحمد شحلان عن العبرية للعربية، بين علاقة الكمال بالنفس وعلاقة الكمال بالمدينة، وعلاقة الكمال بالعدل، ولا يتحصل الكمال في هذه العلاقات الثلاث إلا بتحقق شرط التناسب بين قوى النفس ذاتها، أو الفرد والمدينة مما يؤدي إلى الاعتدال والانسجام وتحصيل العدل بمعنى تيسير القيام بوظائف المدينة بالاستناد إلى الطبع والمرتبة؛ وهنا السياسة تستلزم التوفيق بين التناسب والكمال| الإطلاق في الحسم، وهو شرط تحصيل العدل. “فالعدل أن يفعل كل جزء من أجزائها ما عليه أن يفعل، بالقدر الذي يجب وفي الوقت الذي يجب. وهذا إنما يحصل بالضرورة في أجزاء النفس إذا قادها سلطان العقل. فالحال في المدينة كالحال في النفس”، يسترسل في القول.

وبخصوص مدلول الإنصاف في مراجع السوسيولوجيا السياسية، فيشير إلى أن “جون روس John Rawls في كتابه الصادر في 1971 والمعنون بنظرية العدالة، فقد اعتبر أن المجتمعَ العادلَ مبنيٌ على مبادئ منصفة تعتمد على اشتراطات محايدة. البناء الفكري الذي يعتمده على مقولته الشهيرة “الستار الحاجب يضمن الحياد”le voile d’ignorance garantit l’impartialité؛ وحينئذ فذو القرار يملكون من المسافة ما يجردهم على كل ذاتي يمكنه أن ينحرف بقراراتهم على الموضوعية المتنافية والامتيازات التلقائية الاعتباطية. هذا الاتفاق الافتراضي يصورن الإنصاف باستثناء كل ما من شأنه ألا يستقيم أخلاقيا. وعلى ضوء ذلك، يتفق المشرعون (ممن لهم حيازة التمثيل المعقلن لمصالح المواطنين والمواطنات).

وأبرز أن هذا التوجه استند على مبدئين أساسيين، وهما تساوي الجميع في الحريات والحقوق الأساسية (حرية المعتقد، حرية التعبير والحق في التصويت، والحق في ممارسة الوظيفة والعمل…)، ولذلك وجبت العدالة في تساوي عامة المواطنين والمواطنات في الحقوق، وأن جميع حالات عدم التساوي في الغنى وفي الدخل وفي الموقع الاجتماعي تستلزم إعمال مقتضيين، المقتضى الأول المساواة المنصفة في الفرص بإتاحة الولوج الحقيقي للفرص بدون تمييز تفضيلي لأحد؛ والمقتضى الثاني أن حالات عدم المساواة لا تقبل إلا متى كانت لفائدة من هم في وضعية اجتماعية هشة، ولذلك لزم أن عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية يجب في نظره أن تُستعْظَمَ لفائدة من هم في وضعية الحاجة أو العوز الاجتماعي.

ويوضح أن “هذا الفهم للتمييز الإيجابي يجعل من الإنصاف شكلا للعدالة التوزيعية، فهي ليست مساواة كاملة في النتائج، وإنما هي اشتراط للعيش معا على أساس كل تمايز غير سوي في الحظوظ وفي المقامات الحياتية يقتضي تحسين أحوال هؤلاء الذين يعشون الفقر والضيق الاجتماعي والاقتصادي.

وفي هذا الصدد، يقول إن “بيير بورديو Pierre Bourdieu يقترح تحليلا نقديا يعلل من خلاله الأسباب التي لا تمكن المجتمعات على إحقاق المبدأ المثالي للإنصاف عند جون روس على أرض الواقع. ذلك أن العدالة لا يمكن قياسها باعتبارها مقتضى مجردا، وإنما باعتبارها وقائع محسوسة تتحقق عبر ميكانيزمات اجتماعية تعيد إنتاج اللامساواة وتعرق على المستوى العملي الممارسة اليومية الإنصاف وما تقتضيه العدالة الاجتماعية”، معتمدا على مفهومين “الرأسمال الثقافي” و”التعود” (le capital social et l’habitus)”.

وقال في تأطيره، اليحياوي إنه “في كتابهما “في التعليل” (De la justification)، بولطونسكي وتيفنو Boltanski et Thévenot، ينطلقان من مبدإ أن المجتمعات الحديثة لا تعتمد معيارا وحيدا ومتجانس لمفهوم الإنصاف والأهلية، وإنما يفترض هرميات تراتبية متعددة قائمة على قيمة الشرعيات التي تتمظهر في سلوكات وقرارات الفاعلين بوصفها أنماط تفكير غير متضارعة، وحينئذ تقدير الإنصاف والعدالة يحمل على ما يؤمن به هؤلاء من قيم وتمثلات لمعنى التضامن الاجتماعي والمساواة والإدماج والاندماج.

ولأن التنافر في تقدير الحاجة الاجتماعية للإنصاف لا ينبغي أن يؤدي إلى التنازع المؤدي إلى اللجوء إلى العنف المخالف للمبدإ السامي للعيش معا، فاللجوء إلى الإنصاف يكون مؤسسا على قاعدة الاعتراف الاجتماعي المسنود إلى كفايات أخلاقية ثلاث: العدالة والمحبة والرأفة، يضيف.

تعليقات الزوار ( 1 )

  1. طبيعة القانون تقتضي الشمول، فجميع الأفراد متساوون أمام نفس القانون، لكن، لا بد من تليين هذا القانون “الجاف” بشيء من الإنصاف قبل إنزاله على الحالات الفردية الخاصة، فالإنصاف هو بالدرجة الأولى استدعاء لروح النص القاوني، لذلك فهو يبرر “العدل” حينما يكون لصالح الفئات الهشة والحالات المحتاجة لهذا البعد الأخلاقي والإنساني.
    أعجبني ذلك الإستحضار التاريخي الفلسفي والفقهي لتسليط الضوء على التباين الصارخ بين مفهومي العدل والإنصاف، ثم ذلك التحليل السوسيولوجي لمفهوم الإنصاف في “نظرية التبرير” حيث تدعونا أولا قبل أن نحكم على شيء ما بأنه “منصف” أو “عادل”، أن لا نكتفي بالرجوع إلى قانون أو معيار واحد وأوحد، بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار هذه التعددية في القيم والتصورات التي يحملها الفاعلون في المجتمع، ولهذا فالإنصاف في المجتمعات الحديثة التي تتباين فيها منظومات القيم وتأخذ شكلا فرديا لدى الفاعلين، يجب أن يكون مسنودا بالضرورة إلى العدالة والرأفة والمحبة، كي لا يجر الناس إلى النزاع والعنف، ويؤثر بالتالي على المبدأ الأسمى للحياة الإجتماعية ألا وهو العيش معا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News