التعليم ودوامة الإصلاح (4).. هل تطرد الرؤية الاستراتيجية “لعنة” الفشل؟

في استمرار لمسلسل الإصلاح، وإصلاح والإصلاح، الذي عرفه المغرب في قطاع التعليم منذ الاستقلال إلى اليوم، وضع المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 التي رسمت خارطة طريق لإصلاح المدرسة العمومية، بعد انتهاء فترة تنزيل الميثاق الوطني، بما فيها مرحلة البرنامج الاستعجالي، في ما يشبه محاولة لاستدراك فشل عشرية الإصلاح.
ونحن في سنة 2025، أي على بعد 5 سنوات تقريبا من نهاية المدة التي وُضعت لتنزيل هذه الرؤية الاستراتيجية، والتي هي 15 سنة، فإن تقييم بلوغها للأهداف المرجوة أصبح ممكنا بعد أكثر من عقد على تنزيل مضامينها، وامتحان شعار “من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء” الذي اختاره معدوها عنوان عريضاً لها.
وقد تميزت محاولة الإصلاح الأخيرة لأحوال المدرسة العمومية، عبر الرؤية الاستراتيجية، عما سبقها من مبادرات إصلاحية، بتحولها إلى قانون إطار ملزم (القانون الإطار 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين)، أي أنه لا يمكن الاتفاق على مخالفة قواعده في أي سياسة عمومية تبتغي وضع التعليم المغربي في سكته الصحيحة.
ومن ضمن المميزات التي رفعت من توقعات المراقبين لحال التعليم المغربي ومستوى أدائه، انبثاق هذه الرؤية عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين، وهو مؤسسة دستورية ذات طابعٍ استشاري، على خلاف مخططات الإصلاح السابقة التي كان مصدرها لجان مستقلة تنتهي مهمتها بصياغة مواد مواثيق وبرامج هذه المحاولات.
ومع قدوم حكومة “أخنوش”، وإشراف الوزير السابق، شكيب بنموسى، على قطاع التعليم، خرجت خارطة طريق من أجل مدرسة ذات جودة للجميع، بين 2022 و2026، إلى الوجود، معلنة انضباطها لتوجهات الرؤية الاستراتيجية وتحديدها 12 التزاماً لتحقيق أهداف هذه الخطة، ما اعتبره معارضو هذا المشروع على أنه مخالفة لمضامين القانون الإطار 51.17 المتعلقة بمنظومة التربية والتكوين.
ومع توالي الأرقام والمؤشرات السلبية الصادرة عن التقارير الوطنية والدولية حول الأداء التربوي للمدرسة العمومية ونسب الهدر المدرسي وتراجع مستوى تملك التلاميذ للتعلمات الأساس، تُطرح علامة استفهام كبرى حول حصيلة 10 سنوات من عمر الرؤية الاستراتيجية، التي قيل إنها سترمم أعطاب وفشل محاولات أزيد من 6 قرون من دوامة الإصلاح.
المفارقة بين النظري والعملي
جاءت مضامين الرؤية الاستراتيجية متفائلة، بخطاب يكاد يشبه في شكله ومضمونه الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي استنزف قرابة 12 سنة من عمر الإصلاح دون تحقيق أهدافه المرجوة، حيث حدد المجلس الأعلى للتربية والتكوين ثلاثة أسس ترتكز عليهم الرؤية وهي الإنصاف وتكافؤ الفرص والجودة للجميع والرابقاء بالفرد والمجتمع.
جمال شفيق، خبير تربوي ومفتش تربوي سابق، قال إن “كل الفاعلين في المجال التربوي أجمعوا على أن الرؤية الاستراتيجية نظرياً هي رؤية جيدة وبغايات فعالة للارتقاء بالمدرسة العمومية”، مستدركا أن “الإشكالية مطروحة على مستوى الأجرة بشكل كبير، أي تملك الفاعل السياسي لمضامين هذه السياسة التعليمية الجديدة وتحويلها إلى مشروع على الميدان”.
واعتبر شفيق، في حديثه مع جريدة “مدار21” الإلكترونية، أنه “لا يمكن الاكتفاء بالرؤية في حد ذاتها كطُموح وإنما لا بد من إخراج مخططات وبرامج تترجم خطاب الرؤية بشكل يحقق غايات هذه السياسة وتنزيل الإصلاح بالشكل المطلوب”، مسجلاً أن “هذا التنافر بين النظري وما هو مطبق على أرض الواقع هو الذي يفشل معظم محاولات الإصلاح”.
وفي ما يتعلق بالمرحلة الحالية، أورد المتحدث ذاته أن “الحكومة الحالية تتحدث عن خارطة الطريق 2022-2026 وفقاً للقانون الإطار والرؤية الاستراتيجية”، مبرزاً أن “البرامج التي تنزل في الساحة وعلى مستوى المدرسة المغربية لم تعط بالفعل هذه النتائج التي تتحدث عنها الرؤية في ما يتعلق بالأرقام والمؤشرات والعرض التربوي”.
وسجل المصدر ذاته أن “التقارير والأرقام التي تخرج في كل مرة عن مؤسسات رسمية تبرز بما لا يدع مجالاً للشك أننا لم نتفوق في تحقيق الإنجازات المرجوة من هذه الرؤية”، موردا أن “هذا المعطى يؤكد وجود إخفاقات كبيرة في هذا المجال دون أن ننكر وجود إنجازات تحققت خلال السنوات الماضية إلا أنها تبقى محدودة”.
وبحكم توالي اختلاف مشاريع الوزارة من أجل الرقي بالمدارس، وفي مقدمتها مدرسة الريادة والمدرسة الجديدة، التي نظر لها المجلس الأعلى للتربية والتكوين في تقريره الأخير، سجل المصدر ذاته أن “هذا الارتباك هو الذي يسقط كل محاولات الإصلاح في خانة الفشل”.
“بدعة” تسييس الإصلاح
عانت معظم محاولات إصلاح المنظومة التعليمية المغربية من إشكالية غياب استمرارية البرامج والمخططات، إذ ظلَّ يعيب المتتبعون للشأن التربوي انقلاب كل حكومة، بالمفهوم السياسي، على مسارات الحكومة التي قبلها في محاولة لمحو كل ما يُذكِّر الفاعل التربوي والمجتمع بمبادرات الخصوم السياسيين.
شفيق اعتبر أن “تأويل وتحويل خطاب الرؤية الاستراتيجية حسب الماسك بالسلطة والفاعل الحكومي في قطاع التربية الوطنية من بين عوامل فشل الإصلاح”، منتقدا “انفراد الجهات الوصية على قطاع التعليم بالقرار حينما يرتبط الأمر بمحاولات للإصلاح أو برامج للارتقاء بمستوى المدرسة العمومية والدليل على ذلك هو خارطة الطريق”.
وأورد المتحدث ذاته أن “هذا التسييس للإصلاح يفسد فعاليته ويخلق الاختلاف على مستوى مرجعياته”، مشددا على أن “مصدر تبادل الاتهامات الذي نعيشه اليوم حول انضباط الإصلاح للقانون الإطار، الذي اتخذ طابع الإلزامية، هو طغيان الهاجس السياسي على القرار الحكومي، وإن كان ذلك طبيعيا في قطاعات أخرى”.
ولم يتفق الخبير في الشأن التربوي مع من يدفع بمبرر اختلاف تأويل مضامين القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين لشرعنة إطلاق يد الفاعل الحكومي في الانقلاب على سيرورة البرامج الإصلاحية للحكومات السابقة، خاصة حينما يتعلق الأمر بقطاع التربية والتعليم الذي تشكل فيه الاستمرارية عامل من عوامل نجاح برامج الإصلاح.
ولهذه الأسباب، يضيف المتحدث ذاته، جاء القانون الإطار 51.17 في محاولة لتثبيت ركائز الإصلاح وتجنب الارتباط الذي أعطب برامج قرابة 6 عقود لإصلاح المنظومة التعليمية، مؤكداً أن “رؤية استراتيجية للدولة في قطاع التعليم كان لا بد أن تتحول إلى قانون ملزم وتنهل منها جميع البرامج والمخططات المستقبلية”.
أي مدرسة للمغاربة؟
وإلى حدود اليوم، لم يصل المغرب إلى مستوى تقعيد رؤية إصلاحية موحدة وثابتة لإخراج المدرسة العمومية من منطق التجريب والمحاولة والعبث بمستقبل آلاف، إن لم نقل ملايين، التلاميذ المغاربة، الذين يتحملون ارتباك وتخبط الرؤى الإصلاحية المختلفة للحكومات المتعاقبة.
شفيق اعتبر أنه لمواجهة هذا العبث التدبيري لا بد من “أن تتوفر الحكومة على آليات للتقييم وقياس ما أُنجِز وما لم ينجز”، مشددا على أنه “بغياب هذا التقييم يظل إشكال التخبط والتيه قائما رغم رسم الرؤية الاستراتيجية، لما اعتبره معدوها، معالم ثورة إصلاحية في قطاع التربية والتكوين، ولا يمكن أن نعرف ما تحقق مما لم يتحقق”.
وفي هذا الصدد، وقبل مجيء الحكومة الحالية، سجل الخبير في المجال التربوي أن إصلاح التعليم الابتدائي كان يسير في المسار الصحيح وفق معايير وطنية ودولية جيدة، قبل أن تتوقف هذه المقاربة وإخراج خارطة الطريق إلى الوجود، والتي اختلفت في مضامينها مع فلسفة الإصلاح السابقة، مشددا على أن التركيز كان تقنيا بشكل كبير، وهو ما أثمر مدرسة الريادة.
وحينما نسمع بمدرسة الريادة، يؤكد الخبير التربوي، فإننا نعتقد أنها مدرسة للذكاء والتميز والجودة، في حين أن مقاربة الحكومة التي اعتمدتها في هذا النموذج من المدارس العمومية هي معالجة التعثرات في الأداء التربوي للتلاميذ ومحاربة الهدر المدرسي وتعميم التعليم الأولي، مشددا على أن شعار “مدرسة الريادة” هو مجرد تغليف للنماذج السابقة التي كانت هي الأخرى تعالج تعثرات التلاميذ.
وتابع الخبير التربوي “أي حكم على أي تجربة إصلاح للتعليم العمومي لا يمكن أن يتم خارج آليات التقييم”، مشيراً إلى أن “هذا ما يسمى بحوكمة الإصلاح، أي إخضاعه لاختبار النجاح والفشل بعيداً عن الخطابات والشعارات الإيجابية التي تكون غالبا تفتقر للرؤية الموضوعية والمؤشرات الواقعية”.
وعلى المستوى النظري، لم يعتبر شفيق أن هناك إشكالية على مستوى التخطيط الاستراتيجي، مستدركا أنه على العكس من ذلك فإن الإشكال مطروح على مستوى إشراك جميع الفاعلين والمعنيين والمهتمين بالإصلاح، متسائلا “هل يمكن أن ينجح أي إصلاح دون إشراك للفاعل المدني والتربوي والأكاديمي؟”.