المقاربة التشاركية في المغرب.. بين الشعارات الرنانة والواقع المعطل!

لطالما شكلت “المقاربة التشاركية” إحدى الركائز الأساسية في الخطاب السياسي المغربي، حيث تُطرح كآلية لضمان مشاركة المواطنين والمجتمع المدني في صياغة وتنفيذ السياسات العمومية. غير أن التطبيق العملي لهذا المبدأ غالبًا ما يفرغه من مضمونه، ليصبح مجرد شعار يوظف لإضفاء الشرعية على قرارات مُعدة سلفًا دون إشراك حقيقي للفاعلين المعنيين.
في جوهرها، تقوم المقاربة التشاركية على إدماج مختلف الفاعلين، سواء كانوا مؤسسات حكومية، مجتمعًا مدنيًا، أو مواطنين، في جميع مراحل العملية التنموية، بدءًا من تحديد الأولويات، مرورًا بوضع السياسات، وصولًا إلى تنفيذها وتقييمها. غير أن هذا النهج، الذي يُفترض أن يكون رافعة للديمقراطية التشاركية والتنمية المستدامة، يواجه تحديات بنيوية تعيق تجسيده الفعلي، إذ يظل في كثير من الأحيان مجرد إجراء شكلي يقتصر على الاستشارات المحدودة، دون أن يكون له تأثير ملموس على القرارات النهائية.
رغم التنصيص الدستوري على مبدأ المشاركة، خاصة في الفصل 12 الذي يُلزم السلطات العمومية بتمكين المجتمع المدني من آليات التأثير في السياسات، والفصلين 136 و139 اللذين يدعمان إشراك المواطنين في تدبير الشأن المحلي، إلا أن التفعيل الفعلي لهذه النصوص يظل محدودًا. فالمقاربة التشاركية تُستدعى في الخطاب السياسي لإضفاء طابع ديمقراطي على القرارات، لكنها نادرًا ما تُترجم إلى آليات فعالة تُمكّن المواطنين من ممارسة دور حقيقي في توجيه السياسات العمومية.
تشير عدة تقارير إلى أن تفعيل المقاربة التشاركية في المغرب ما زال يواجه صعوبات كبيرة، حيث تبقى مستويات المشاركة الفعلية للمجتمع المدني والمواطنين ضعيفة. وفقًا لتقرير صادر عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2022، فإن 45% من المواطنين المغاربة لا يعرفون كيفية المشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتنمية المحلية، في حين ترى 60% من الجمعيات أن آليات التشاور التي تعتمدها الدولة غير كافية وغير فعالة. كما أظهرت دراسة أنجزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2021 أن 72% من المواطنين يرون أن قرارات المجالس المنتخبة لا تعكس حاجياتهم الحقيقية، مما يدل على أن المشاركة الفعلية في تدبير الشأن العام لا تزال محدودة.
من بين الأمثلة البارزة على غياب التطبيق الفعلي للمقاربة التشاركية، نجد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي انطلقت سنة 2005 بهدف إدماج الساكنة المحلية في مشاريع التنمية. رغم نجاح بعض المشاريع، إلا أن تقارير تقييمية صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات تشير إلى أن العديد من المشاريع تعاني من غياب المتابعة المنتظمة، وضعف تكوين الفاعلين المدنيين، مما أدى إلى نتائج دون المستوى المطلوب.
في مجال التنمية الترابية ، يتم الترويج لمشاركة المواطنين في إعداد المخططات التنموية، غير أن الواقع يشير إلى عكس ذلك. ففي دراسة أجراها المرصد الوطني للتنمية البشرية سنة 2020، تبين أن 65% من المشاركين في اللقاءات التشاورية المحلية يشعرون أن مساهماتهم لا تؤخذ بعين الاعتبار، وأن القرارات غالبًا ما تكون محسومة سلفًا. كما أن عدداً كبيراً من الاجتماعات التشاورية تُنظم في أوقات وأماكن غير مناسبة، مما يُقصي فئات واسعة من المجتمع من إمكانية الحضور والتعبير عن آرائهم.
هذا الواقع لا يقتصر فقط على التنمية المحلية، بل يطال أيضًا الحوار الاجتماعي، الذي يُفترض أن يكون فضاءً تفاوضياً مفتوحاً بين الحكومة والفاعلين النقابيين والمجتمع المدني. غير أن الممارسة الفعلية أظهرت أن الكثير من الاتفاقيات المبرمة خلال جولات الحوار الاجتماعي لم يتم تنفيذها بشكل كامل. تقرير صادر عن الاتحاد المغربي للشغل سنة 2023 كشف أن 58% من التوصيات والالتزامات التي تم الإعلان عنها في الاتفاقات الاجتماعية لم يتم تفعيلها، مما يعكس ضعف الإرادة السياسية في تحقيق مشاركة حقيقية للفاعلين الاجتماعيين.
من بين العراقيل الأساسية التي تعيق تفعيل المقاربة التشاركية في المغرب، هناك ضعف الشفافية وغياب المعلومات الدقيقة حول آليات المشاركة. في استطلاع للرأي أجرته منظمة “ترانسبارنسي المغرب” سنة 2022، اعتبر 67% من المستجوبين أن القرارات الحكومية لا تتمتع بالوضوح الكافي، مما يجعل المشاركة فيها شبه مستحيلة. كما أن المجتمع المدني، الذي يُفترض أن يكون شريكًا رئيسيًا في تعزيز المشاركة، يعاني من مشكلات هيكلية عديدة، من بينها ضعف التمويل، غياب الكفاءات المتخصصة، وعدم استقلالية بعض الجمعيات التي تُستخدم كأدوات لخدمة أجندات سياسية ضيقة.
من الأمثلة العديدة نجد قطاع الصحة الذي يعد من أبرز المجالات التي تعكس هشاشة المقاربة التشاركية في المغرب. فرغم التحديات الكبيرة التي يواجهها المواطنون يوميًا في الحصول على خدمات صحية ذات جودة، فإن إشراكهم في بلورة السياسات الصحية يظل غائبًا. الاستراتيجيات الصحية تُصاغ في مكاتب مغلقة، بعيدًا عن آراء المرضى أو حتى مهنيي الصحة أنفسهم. تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2022 أكد أن 70% من القرارات الاستراتيجية المتعلقة بالقطاع الصحي تتخذ دون إشراك الهيئات المهنية أو جمعيات المرضى.
إذا كان الهدف هو تجاوز هذه الإشكالات واستعادة جوهر المقاربة التشاركية، فإن الأمر يتطلب إصلاحات جذرية على عدة مستويات. أولًا، لا بد من تعزيز الثقافة السياسية للمشاركة، عبر حملات توعوية تستهدف المواطنين لتمكينهم من فهم آليات التأثير في السياسات العامة. ثانيًا، ينبغي تطوير الإطار القانوني لضمان التزام السلطات العمومية بإشراك المواطنين والمجتمع المدني في جميع مراحل صنع القرار، وعدم الاكتفاء بإجراءات شكلية.
كما أن التكنولوجيا يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًا في تسهيل المشاركة، من خلال إنشاء منصات رقمية تتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم، تقديم مقترحاتهم، ومتابعة تنفيذ المشاريع في شفافية تامة. تجربة بعض الدول مثل إستونيا وكندا في الديمقراطية الرقمية أثبتت أن استخدام التكنولوجيا في تفعيل المقاربة التشاركية يعزز من إشراك المواطنين بطرق أكثر نجاعة وفعالية.
وفي الأخير فإن تمييع مفهوم المقاربة التشاركية في المغرب لا يعكس فقط أزمة في السياسات العمومية، بل يكرس أزمة ثقة أعمق بين المواطن والدولة. استعادة الثقة تتطلب الالتزام بتطبيق المقاربة التشاركية بروحها الحقيقية، وليس فقط كشعار يُستخدم لأغراض تسويقية. إن أي عملية تنموية لا تأخذ بعين الاعتبار حاجيات المواطنين ولا تضمن إشراكهم الفعلي تظل ناقصة وعرضة للفشل. المستقبل يتطلب تغييرات جوهرية في طريقة التفكير والتخطيط لضمان تنمية أكثر عدالة واستدامة، حيث يكون للمواطن دور محوري في تحديد مسار السياسات التي تؤثر على حياته اليومية.
باحث جامعي في العلوم السياسية