جين بينغ في المغرب: المعنى والأفق

رغم قصرها، حملت زيارة الرئيس الصيني للمغرب، واستقباله خلالها من طرف ولي العهد الأمير مولاي الحسن، دلالات كبيرة ومعبرة عن الشأن الرفيع لمستوى العلاقات الصينية المغربية، وكذلك عن الأهمية الجيوستراتيجية التي صارت تتراكم للمغرب في المشهد الدولي بفضل دوره المتنامي في الدعوة إلى السلم العالمي، وكذلك تنويعه للشراكات مع كل القوى الفاعلة دولياً. تأتي الزيارة مباشرة بعد اختتام قمة العشرين في ريو دي جانيرو، مما جعل توقيتها يوحي وكأن شي جين بينغ يريدها امتداداً لمشاركته في أشغال هذا الملتقى الذي يضم أقوى اقتصاديات العالم. مما يظهر من دون أدنى شك أن بكين تعوّل تجارياً واقتصادياً على المملكة في المجالين العربي والإفريقي، كونها تصنفها ضمن الدول الواعدة اقتصادياً، وتتوسم فيها دائماً الجاهزية والنجاعة في الإسهام بفعالية في مشروع الصين العابر للكرة الأرضية؛ “الحزام والطريق”.
هذه الزيارة تبرز أيضاً أن المغرب بدوره يقدر الدعم الصيني لقضاياه، ويثمن عروضها التنافسية واختراعاتها وابتكاراتها التي يحتاجها في مجالات عدة.
لم يكن من قبيل الصدفة ولا مجاملة أن يقتطع رئيس ثاني أقوى دولة في العالم هذا القدوم إلينا من أجندته المزدحمة، فهو أيضاً منجذب للصورة المشعة التي رسمتها الدبلوماسية الناجحة لبلادنا، ومطلع على الدينامية التنموية التي تشهدها، والشراكات المثمرة التي تعقدها مع الدول الكبرى. ويريد أن لا تكون بلاده بعيدة عن هذه المبادرات الإقليمية والقارية التي تقودها المملكة المتميزة والمتفردة باستقرارها وأمنها، وبأنموذجها الحضاري والاقتصادي في شمال إفريقيا.
التعاون المغربي الصيني يعيش أزهى عهد له، إنه سائر في خط تصاعدي تراكمي، وذلك منذ زيارة الدولة التي قام بها جلالة الملك للصين سنة 2016، والتي أرسى عبرها صداقة قوية ومتينة ونموذجية وصلت في أقصر وقت إلى درجة الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. ثم كانت أزمة كورونا التي صهرت ولحمت هذه العلاقة، فكان الاختيار الصائب للمغرب للقاح الصيني، ومشاركته في التجارب السريرية التي سبقت ابتكاره، وتزويد الصين له بالجرعات مع أول المستفيدين. ثم تلا ذلك بناء مصنع بنسليمان لضمان السيادة اللقاحية لكل إفريقيا. وبهذا التعاطف والتآزر والأثرة خلال تلك الأوقات العصيبة التي أبانا عنها البلدان، تكون الصين والمغرب قد أحكمتا علاقتيهما السياسية والاقتصادية، وحصنتاهما إلى الأبد.
عندما يزور الرئيس الصيني المغرب، فإن عينه بالتأكيد على مزيد من الشراكات التي تكون فيها المصلحة للطرفين. ثم هو يعلم لزوماً، وقبل كل شراكة، أن المغرب يقيم علاقاته مع الدول من منظار موقفها من قضية سيادته التي لا تقبل النقاش على صحرائه الجنوبية، كما قد أطلع بذلك ملكنا العالم، وهو ما يرشح الصين لأخذ هذا المعطى بعين الاعتبار، لتكون ثالث أو رابع دولة بمجلس الأمن ستؤيد جهاراً الحق المغربي بعد أن دأبت على عدم معاكسة مصلحة المغرب في كل القرارات التي يصدرها هذا المجلس بخصوص صحرائنا كل سنة. إنه أيضاً المعنى الوحيد الذي نستشفه من بين ثنايا تصريح الرئيس الصيني في الدار البيضاء بأن الصين تدعم أمن المغرب واستقراره. والمستقبل بيننا.
الصين تراقب، ولا شك، كيف يسعى المغرب إلى منح منفذ على الأطلسي لدول الساحل، وكيف يخطط لمد أنبوب غاز من نيجيريا عبر 13 دولة. وتفهم معنى المبادرة الأطلسية التي تضم 23 دولة، فترى في الرؤية المغربية شبهاً لرؤيتها الاقتصادية. مبادراته هي إلى حد ما نوع معدّل من خطة الحزام والطريق، إلا أنها خطط تلائم السياقات الإفريقية.
الصين حريصة على الحضور في إفريقيا. فالقارة السمراء تمدها بالمواد الاستراتيجية التي تضمن بها استمرارها في حلبة المنافسة تجارياً واقتصادياً على الصعيد العالمي. وهي فوق ذلك واعية أنه لا مناص لها من البوابة المغربية، فالمغرب هو البلد المؤثر الذي يحظى بالقبول في غرب إفريقيا. والبلد المؤهل لملء الفراغ الفرنسي في إفريقيا بفضل نفوذه الروحي واستثماراته ودبلوماسيته اليقظة البرجماتية. الصين تعي أن المغرب يبحث لإفريقيا عن إقلاع حقيقي، ولذلك يهمها أن تظل في نطاق المشاهدة لديه حين يأزف وقت المشاريع الإفريقية العملاقة وتختمر. كما أن الصين تعرف من جهتها مدى النفوذ العربي للمغرب رغم الصراع المفتعل مع الجزائر، وتتعامل معه على هذا الأساس. هذه الزيارة تُعدم دون قصد منها أية محاولة للجزائر لتهريب مرتزقتها إلى أية قمة تعقدها بكين مع العرب أو مع الأفارقة.
عدا كل هذه، هناك عناصر تقارب تجعل الود الصيني المغربي منطقياً وحتمياً. الصين رأسمالية مركزية والمغرب له أيضاً نموذج تنموي يتحرك في إطاره القطاع الخاص بكل حرية. الصين إمبراطورية عريقة، والمغرب دولة بعمق إمبراطوري ضارب في التاريخ تحكمه أقدم أسرة مالكة في العالم. ولذلك فإن الصين ستفضل مملكة ودولة حقيقية وطبيعية لها معها أواصر تاريخية على دول طارئة أو مصطنعة. أليس المغرب بلد ابن بطوطة الطنجي الذي زار الصين في القرن الرابع عشر وعاد إلى المغرب سفيراً للصين يعرف المغرب والعالم العربي بالحضارة الصينية العظيمة؟ أو أليس قبله في القرن التاسع الميلادي، كان المغرب قد تموقع من خلال عاصمته التاريخية فاس كمركز استراتيجي على طول طريق الحرير، يربط بين الشرق الأوسط وجنوب أوروبا؟ وإذا كنا في غنى عن القول بأن العلاقات القديمة تنتهي دوماً إلى الانبعاث من جديد أكثر قوة ومتانة، إلا أنه يجدر أن نشير إلى أن أقوى عامل يجذب البلدين سياسياً لبعضهما حالياً يبقى بالتأكيد حساسيتهما المفرطة ورفضهما المطلق لكل الحركات الانفصالية التي تستهدف وحدة الدول.
الصين والمغرب حكاية تعاون ناجحة بدأت بالتركيز على الجانب الاقتصادي، فنَجحت اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً. هما تطبيق ملهم لمبدأ المكسب للجميع. زيارة الرئيس الصيني علامة على الاهتمام الجديد الذي يحققه المغرب خلال ربع قرن من حكم محمد السادس، مما جعله رقماً صعباً في معادلات الكبار.