مذكرات.. قصة حب لم تكتمل في زمن “الطابوهات”

سيشارك الفيلم الروائي الطويل “مذكرات” ” (Journal intime) لكاتبه ومخرجه محمد الشريف الطريبق، ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة من 18 إلى 26 أكتوبر 2024.
ويحكي الفيلم قصة حب جميلة، تجمع البطلين الشابين هدى وأحمد، تفتقت في فترة كان الحب فيها محاطا بكل أنواع الطابوهات، ولم يكتب لزهوره أن تتفتح، لتتحول معها كل الأحلام إلى كوابيس. كأن الحب لص هارب ومطارد، وما عليه كي ينجو بجلده، سوى الاختباء في حجرات مغلقة، مظلمة معظم الأحيان، كي يتنفس الصعداء ويعيش لحظاته الخاصة . وحتى الاختباء عينه مراقب بالعيون المتلصصة، في درج العمارة أو خلف الحيطان وفي كل الأمكنة.
فلا شيء أقسى على الإنسان من اللحظة التي تمس فيها كرامته. هدى شابة جميلة لديها أمنياتها الخاصة، تنكسر أحلامها على صخرة الواقع، لتتحول أو تستنفسخ في أدوار مختلفة وتتقمص عدة شخصيات في امرأة واحدة، عبر سياقات تضم في أتونها أخت البطل أحمد التي هي من نفس عمرها، وهي تستعد للخروج في موعد غرامي، الشابة المراهقة التي تصعد وتنزل من درج العمارة والمحاطة بمراقبة شديدة من طرف أبويها، خطيبة نور الدين، العاهرة، لتنصهر إلى حد كبير مع صاحبة المذكرات التي تحكي أسرارها الحميمة والخاصة، كأنها تعيش نفس أسرارها.
فالمذكرات، على لسان كاتبتها، وفي مفارقة مثيرة، كانت تفشي ما كانت تتمنى أن تعيشه وتكتبه، عكس ما كانت تقوله، رغم أنها كانت ذاهبة إلى الانتحار، حين تقول: يوم جميل ليس ككل الأيام ، لدي أسراري، سأبوح لك بسر، لكن كل الأمور كانت متجهة إلى بداية جديدة، وهي الموت، بكل ما يحمله الموت من دلالات وجودية ورمزية، كالإهمال، والجفاء العاطفي، التمييز، إنتهاك الخصوصية، هدر للكرامة في سوق الدعارة، الاعتداء الجنس.
فالمذكرات هنا بمثابة الخلفية الوجودية والنفسية التي فجرت الأزمة لدى شخصيات الفيلم من خلال تصعيد درامي يتنامى، رغم بطئه، عبر مختلف لحظات الفيلم، باستثناء المشاهد الأخيرة منه. وفي كل مرة يتم فيها الانتقال من مشهد إلى ٱخر، نخلص إلى استشفاف الخلفية التي لا ترى للفتاة المنتحرة، وهي نفس الشخصيات المستنسخة في مذكراتها.
يوثق الفيلم لإشكالية علاقات الحب الشبابية خلال مرحلة التمانينيات، في فترة. يقول المخرج الشريف الطريبق، شكل فيها الجنس هاجسا كبيرا لدى عموم المغاربة وخاصة الشباب، ويلامس في عمقها الحالات النفسية التي تعتمل في دواخل الشخصيات.
وقد كان المخرج موفقا في رصد التفاصيل الدقيقة لهذه العلاقة ، نلمسها في مواقف كثيرة، في ترتيبات الموعد الغرامي، الهاتف الثابت كوسيلة وحيدة في التواصل، الخصاص المادي الذي يدفع البطل إلى سرقة نقود أخته، إلتماس مكان اللقاء الذي يفضل أن يكون مغلقا وبعيدا عن الأعين، الخادمة بالعمارة التي لا تفوت صغيرة ولا كبيرة، صاعدة ولا نازلة كما عمد المخرج، عبر كاميرا لصيقة جدا بالشخوص وفضاء التصوير، إلى كتابة جمل مشهدية دقيقة من زاوية رؤية ميكروسكوبية، إذا جاز التعبير للحركات، ونظرات العيون، ولحظات الصمت، عبر جمل حوارية مقتضبة، تعبر عن الإحساس بالخوف والتردد والتغييرات التي تتواثب في تعابير الوجه، طراوة الاحتكاك الأول بكل ارتداداته الجسدية والنفسية والشعورية، والقبلة الأولى كتتويج طبيعي وتلقائي للشعور بالحب، ولذة اللحظة التي ود البطلان أن يتوقف فيها الزمن، ليته فعل، ولا ينقضي.
في لحظة ما مؤثرة من الفيلم، قد لا يتعرف المشاهد على البطلة، كما لو أنها تحولت فجأة إلى لبؤة بمخالب شرسة وأنياب حادة وعلى أهبة للانقضاض وافتراس أي شيء أو شخص يعترض طريقها. وقد برع المخرج في نقل حالتها النفسية المزرية. وقد أبانت الممثلة أنيسة العناية عن قدرات لا يستهان بها في تشخيصها الدقيق لمجمل لحظات الفيلم، فلا غرابة، وهي الفائزة بجائزة أحسن دور نسائي في فيلم “مذكرات” لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط.
بالنسبة للإيقاع البطيء للفيلم، فهو نفسه الإيقاع الرتيب للحياة ، والتبطيء هنا، حسب الشريف الطريبق، متعمد لإعطاء الفرصة لتأمل التفاصيل الدقيقة، ورغم ذلك هناك إيقاع خاص بالحكاية ظل يتطور داخل الفيلم، وتزداد وتيرته سرعة نسبيا خلال مشاهده الأخيرة.
في فيلم ” مذكرات” يتمرد الشريف الطريبق، كما عودنا، على ماكينة التنميط التي توجه وتتحكم في نوعية الأفلام التي يتم الاشتغال عليها ، وهي في معظمها أفلام سياسية بخلفيات إجتماعية ، يصبح معها الفرد مجرد نموذج إجتماعي سليل طبقة أو فئة إجتماعية معينة، و”طموحي كان دائما، يقول الشريف الطريبق، هو إبراز شخصية الإنسان المغربي في سياق روائي أو سينمائي، كشخصية متفردة لها إشكالاتها الخاصة، ذات عمق نفسي، وتعيش صراعاتها الداخلية، وليس بالضرورة أن يكون فقط نموذجا إجتماعيا كحطب للمعارك الكبرى وتجليا من تجليات الاحتجاج على السلطة، أو مجرد ظل أو شكل للشخصية وفق النظرة الكولونيالية التي تجعل من شخصية الٱخر المستعمر الأوروبي الشخصية الرئيسية ومحور الأحداث”، “وهذه الخاصية، يؤكد الشريف الطريبق، هي بمثابة الخيط الناظم الذي يرثق كل أعمالي السينمائية ابتداء من “أفراح صغيرة” مرورا ب”زمن الرفاق” ثم “مذكرات” على إختلاف المرحلة الزمنية لكل فيلم، ويمكن القول أنها ثلاثية ترصد أهم مراحل تطور الشبيبة المغربية، ابتداء من الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن الماضي”.