فن

“اللِيلة” الكناوية.. طبُّ أرواحٍ مغربي عمره قرون

“اللِيلة” الكناوية.. طبُّ أرواحٍ مغربي عمره قرون

غير قليل من النمطية وأحكام القيمة يسودان الخطاب الإعلامي عند الحديث عن موسم “سيدي علي بن حمدوش”. فإما تسليط الضوء بأكمله على البُعد “الرسمي” للموسم، المتجلي في الاحتفالات بعيد المولد النبوي، وما يتخللها من حفلات إنشاد صوفي تقام بضريح الولي الصالح المذكور، وإما الإلحاح على البُعد المُعتَبر “منافياً للعقل” و”جوهر الدين الإسلامي”، بتواتر التقارير عن “حج المثليين”، و”الشعوذة”، و”الطقوس الشِركية” وما إلى ذلك..

طيلة أسبوع، واعتبارا من تاريخ ذكرى المولد النبوي، تقفز هذه البلدة النائية، التابعة لجماعة المغاصيين القروية البعيدة عن مدينة مكناس بحوالي 30 كيلومترا، إلى واجهة الأحداث، فتكتظ بالوافدين و”الحجاج”، وتشهد زخما اقتصاديا وتجاريا تُراهن عليه الساكنة لتحمل شظف العيش خلال سائر العام، عبر توفير السلع والخدمات اللازمة لضيوفهم، سواء الآتين لممارسة طقوسهم الروحية الخاصة، أو لمجرد الفرجة والاستمتاع بإيقاعات “حمادشة” و”عيساوة” و”جيلالة” و”كناوة” وغير ذلك من الطوائف والمدارس الموسيقية.

بيد أن أكثر ما قد يشد انتباه الزائر لأول مرة هو ذلك البُعد الروحي الذي تشهده “اللِيلات”، ولاسيما “الكناوية” منها، حيثُ العزف والرقص وغير ذلك من الفعاليات الجماعية، المريعة أحيانا والصادمة أحيانا أخرى، بدءً من غسق الليل وإلى أن يبلج الفجر.

“إلياذة” المغاربة!

لعل المغرب لم يحظَ تاريخيا براوية بقيمة الإغريقي “هوميروس” أو الروماني “فرجيل”، يحفظ له تراثه الميثولوجي ويرقى به إلى رحاب العالمية. لكن المُعتقدات التي تروج هنا في سيدي علي أثناء الموسم، ولا ينفك مَغاربة عديدون يؤمنون بها، في تصالح تام مع ديانتهم الإسلامية، ترقى لنسق ميثولوجي مُتكامل، يليق بـ”إلياذةٍ” أو “أوديسة” مغربية.

لا يتحدث الناس هنا عن “آلهة” بصريح العبارة، فعقيدتهم التوحيدية تصدهم عن ذلك، لكن الخصال التي يضفونها على “عيشة”، صاحبة المزار، والتي يقصدها معظم الزوار تضرعا إليها، ويهدون لها لقاء خدماتها القرابين، بين ذبائح وحناء ومأكولات، ويوقدون الشموع، ويتدثرون بأثواب سوداء كالحة خضوعا لها وتوسلا إليها… علاوة على ما ينسبون إليها من خوارق تتحدى العقل المحض، يرقى بهذه “الجنية” إلى ما يشبه “زيوس” الإغريقي أو “مردوخ” الرافديني، أو “جوبيتر” الروماني. إنها “ملِكة الملوك”، التي تتسيد عدداً لا يحصى من الأرواح الخارقة الرديفة، كـ”سيدي موسى” صاحب البحر والماء، و”حمو” الجزار عاشق الدماء، و”الحاجّة مليكة” البهيجة مُحبة الروائح الزكية… ولكلٍ عشاقه وأتباعه.

كما أن لكلٍ من هذه الأرواح، التي يأتي مغاربة مع بعض الفضوليين الأجانب، لزيارتها والتقرب منها، لونه الخاص الذي يتدثر به “أنصارُه” تيمناً، و”مِزاجٌ” مُعين يُفضي إلى قرابين وطقوس محددة يجدر بـ”الممسوس” اتباعُها لنيل رضاه والحصول على خدماته الروحية، والتي تتراوح عادة بين الشفاء من مرض عضال أعيا الأطباء، أو إنجاب طفل طال انتظاره، أو تحقيق أمنية غالية متعثرة منذ أمد..

يقول الأستاذ كمال فريالي، الباحث في الأنثربولوجيا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إن الأمر يتعلق فِعلا بآلهة إفريقية وثنية قديمة، دخلت المغرب مع العبيد المجلوبين من “السودان”، أي من إفريقيا جنوب الصحراء.

وترى دراسات أنثربولوجية أخرى أن هذه المعتقدات “انصهرت” مع النسق العقدي الإسلامي المغربي، و”تأسلمت”، فتم تحوير أسماء آلهتها إلى أسماء مغربية، والاقتصار على وصفها بـ”الأرواح” أو “الجن” أو “رجال الله” تجنباً لاصطدامها بالتوحيد الإسلامي الذي يسم دين المغاربة.

لكن الأستاذ فريالي يرى أن “الأهم ليس أصل هذه الكائنات الخارقة، بقدر ما تهم تفاصيل التجربة الروحية التي يعيشها من يعتقدون في وجودها واستحواذها على عقولهم وأجسادهم، والتي تتجلى على وجه الخصوص في تجربة (الغشية) أو “Transe” بلغة علمية، “الجذبة” بلغة المغاربة الشعبية.

ألف ليلة و”لِيلة”!

سيارات فارهة مركونة عند مربض سيدي علي، وهندامُ مرتادي الموسم و”اللِيلات” يشيان بتعدد وتنوع فئات المجتمع المغربي المقبلة على الموسم، ويفضحان تهافت الصورة النمطية التي تصنّفهم في أدنى درجات المجتمع، وترميهم بالجهل أو الفاقة.

بغاية مُعاينة تجربة “الجذبة”، حضرَ “مدار 21” ليلة لفن “تاكناويت”، أحيتها فرقة “جمعية الفلكلور الكناوي الإسماعيلي”، بإحدى دور سيدي علي المتواضعة. هنا يَملك المعلم “السعيد” خبرة عقودٍ طوال، ليعرف أي “الرياح” يتعين عليه وعلى فرقته عزفها. إذ أن ليلة واحدة لا تكفي عادة لاستحضار كافة “الملوك” وعزف “رياحهم” كلها. القاعدة الوحيدة في هذا السياق هي اختتام الليلة بريح “عيشة”، أما البقية فللمعلم حرية الانتقاء من بينها، فيتجاوز البعض ويختزل البعض الآخر تماشيا مع رغبة الحُضور. ويسمى المقطع المعزوف بالريح، كما يوضح الأستاذ فريالي، اشتقاقا من “الروح”، بما أن دور المعلم هو استحضار “الأرواح” ودعوتها لمنح بركتها وخدماتها الخارقة لجمهوره ومريديها.

افتتح المعلم سعيد هذه الليلة بريح “ميمون”، فقام بعض المدثرين والمدثرات بالأسود للرقص، اغرورقت عيون بعضهم بالدموع، وطفح الحزن على وجوههم، وسرعان ما شرع بعضهم في “التحيار”، وهي رقصة ترج كافة أطراف الجسد بشدة؛ شعور النساء الشابات تتطاير هنا وهناك لتصفع من يقف في طريقها، وقد تسقط إحداهن مغشيا عليها، أو تصيح حتى تتقطع حبالها الصوتية… بينما يكتفي بقية الحضور بالتفرج والتصفيق والتمايل كأي جمهور يحضر حفلا موسيقيا، فيعتقد من يحضر الطقس للمرة الأولى أنهم غير معنيين بالأمر، لكن الأمر خلاف ذلك، كل ما هنالك أنهم ينتظرون “دورهم”، الذي يأتي عند عزف ريح “الجني” الذي يتلبسهم.

يوضح الأستاذ فريالي بالقول: “بعض حضور الليلة متمرسون، على علم مسبق بجنيّهم، ولا يؤثر فيهم استحضار الأرواح الأخرى قيد أنملة إلا نادراً، وحدها ‘عيشة’ تحصد الأخضر واليابس، يقام لها ولا يقعد، ويجذب عليها الجميع تقريباً. أما البعض الآخر فمبتدئون، يأتون لاستكشاف أنفسهم وإماطة اللثام عن جنيّهم”.

ذلك ما جرى فعلا حين قعدت بالقرب منا شابة في عمر الزهور، تسر بحسنها الناظرين وتخلب الألباب بشعرها الناعم المسبل إلى حدود خصرها، أكدت لـ”مدار” أنها أتت من مدينة الرباط، وحين استفسرناها عن غايتها، أمجرد الفرجة أم “الجذبة”؟ أجابت بنوع من التهرب والخجل: “الله أعلم، ما عرفتش شنو بيا”.

لن يطول بنا الأمد قبل تلقي الجواب الشافي، إذ تحلت الفتاة بهدوء ورزانة كبيرين، مستمتعة بالعرض الموسيقي الصاخب، تصفيقا وتمايلا، حتى شرعت الفرقة في عزف “ريح الباشا حمو”، انقلبت حينئذ إلى حالة يرثى لها. انفجر ينبوع دمع في عينيها، وسحبت من حقيبتها بعض المال واضعة إياه في وعاء “المعلمين”، ذاك دأب كل مصاب بالحال حين يُعزف ريح ملكه، وكلما رفع الفريق إيقاع “حمو” تفاقم حال الفتاة. حين دوّى صوت المعلم “وا حم حم الباشا حمو، قلتي الجاوي راني طلقتو، قلتي العتروس راني ذبحتو” هوت الفتاة أرضا بعنف وأصدرت خرخرة مريعة، فتدفق على إثرها مخاط غزير ولُعاب من أنفها وفمها، تمددت فوق الأرض لثوان معدودة قبل أن تزلزل القاعة بصرخة مُدوية، وتقوم جاثية على ركبتيها، تهز رأسها بعنف فيتطاير شعرها الناعم ورذاذ لعابها ليصفعا وجوه المحيطين بها.

المعتادون يعاينون ما يجري بلا خوف ولا وجل، حتى أن إحداهن، وكانت أقربهن إليها جسديا، واصلت فرجتها متجاهلة إياها تماما كأنها أمام مشهد معتاد. لم يهدأ روع الفتاة الجاذبة، وترجع لرشدها إلا حين فارقت الفرقة عزف “حمو” إلى غيره من “الرياح”.. فعادت لسابق عهدها، تصفق وتتمايل وتبتسم بسكينة.. كأن شيئا لم يحدث!

وفقا للأستاذ فريالي: “من النادر أن يتذكر الجاذبون شيئاً بعد إفاقتهم من الغشية، لكنهم يشعرون بتحسن كبير في حالتهم النفسية بعد ذلك”.

المعلم السعيد.. طبيب الأرواح!

توالت الرياح منذ الحادية عشرة ليلا وحتى السادسة صباحا. نحن، أي غير المعنيين بجذبة أو ملك، لم نلمح كائناً خارقا يتجول في المكان إلا واحدا، هو المعلم السعيد، الذي عزف طيلة هذه المدة ببراعة مذهلة ونسق منتظم، مستفيدا من استراحات قصيرة لا تغني ولا تسمن.

لم يمنعه من ذلك تعدد الأنغام وتنوعها وتباين خصائصها، فلكل “ريح” أنغامه وطقوسه الخاصة، بعضها عنيف وصادم، كريح “حمو” الذي لا يُستبعد فيه استخدام الجاذب سلاحا أبيض لإيذاء جسده، أو “فوفودنبا” الذي يقطر فيه البعض الشمع على أذرعهم. أما البعض الآخر فلا تعوزه البهجة، على غرار ريح “الحاجّة مليكة”، ذات اللون البنفسجي الجميل والإيقاعات المسرورة التي يُرقص على إثرها بابتسامة غامرة، وقد ينتهي المطاف بأحد الممسوسين إلى الدخول في نوبة قهقهة طويلة.

حان وقت الاختتام بريح “عيشة”، أمر المعلم بإغلاق أبواب البيت: “لا أحد يدخل أو يخرج علينا، من أراد الخروج فليغادر الآن قبل أن نبدأ”، ثم أطفِئت الأنوار، وأوقدت الشموع. وخلافا لباقي الرياح التي تقيم البعض وتقعد البعض الآخر، قام الجميع للرقص على شرف عيشة.

انتهت الليلة، وألقت الشمس بأنوارها الأولى في الخارج. مازال لدى المعلم السعيد ما يكفي من الطاقة ليتفكه معنا بلكنته المراكشية العذبة: “أنا راني طبيب نفساني، وما تنعطي دوا، دوايا هو هاذ الهجهوج”، ليضيف: “أرأيت تلك التي رقصت على البحراوي سيدي موسى؟ لقد كان جسدها معنا، أما روحها فتسبح في البحر مع الحيتان وأسماك القرش”.

يعزو الأستاذ فريالي هذه الظاهرة للثقافة أساسا: “لهذا يُستبعد أن ترى أجنبيا أو حتى مغربيا لم ينشأ في ثقافة تؤمن بهذا النوع من الأرواح تنتابه الغشية”.

قد يسأل سائل لأي الأسباب لا تُلحظ هذه الحالة كثيرا في مهرجانات موسيقى كناوة الشهيرة، أو أثناء الاستماع إلى مقطع موسيقي كناوي على “يوتيوب” مثلا، يجيب الأستاذ فريالي: “ثمة أمران، أولاً: موسيقى كناوة الموجهة للاستهلاك العام والتجاري يتم فيها حذف المقاطع المؤدية للغشية، وتحوير بعض الكلمات واختصار الأغاني… وثانيا لأن هذه الحالة تتطلب سياق رقص جماعي كالذي يحدث أثناء “الليلة”.

في الختام، يصلى ويسلم على رسول الله، ويوزَّعُ التمر والحلويات على الجمهور، جاذبا كانوا أو غير ذلك، وأيا يكن من الأمر، فوجوه الجاذبين عقب انتهاء الليلة تشي بتحسن مزاجهم، تلك السكينة التي نزلت بهم استجابة “عيشة” وجماعتها في رأيهم الخاص، أما العلم، وخاصة الأنثربولوجيا، فما زالا يتحليان بالتواضع والدهشة في مواجهة هذا النوع من الظواهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News