رأي

متلازمة الفومو

متلازمة الفومو

من المؤكد أن الكثيرين منكم سيجدون أنفسهم في هذا المقال، و لعلي أكون أولكم : لنبدأ إذن : من منكم لايزور شاشة هاتفه مرات في اليوم ؟ . كلكم تقريبا،أليس كذلك؟ . ولكن من منكم لايفترق عنها . وكلما اقتصد له دقيقة إلا، وهب للهاتف بحثا عن آخر الأخبار و آخر المتصلين متوجسا أن تفوته بعض المواعيد و الأشياء؟ ، الجواب : أغلبكم.

هذا الإدمان الذي يجعل الفرد قلقا يغوص كل وقت وحين في مواقع التواصل الاجتماعي، منقبا عن الأحداث الجديدة في لجاجة شاشته، لم يعد هناك مجال اليوم لانكاره. لقد تحول لظاهرة عالمية يحسها الجميع ،و لذلك قد وضع له المختصون الآن اسما خاصا به ( fear of missing out). وإذا نحن جمعنا الحروف الأولى لهذا الاسم ،ونطقناها بالعربي ،فإنه يصير متلازمة فومو. .و يكون بالترجمة الأمينة المطنبة هو ” الخوف من فوات الأشياء “.

الفومو كان موجودا بدرجات اقل قبل عصر مواقع التواصل الاجتماعي. لكنه الآن صار من المضاعفات الجدية لرقمنة حياتنا وتحولها نحو العالم الافتراضي .إنه يعكس فضولنا الذي لايرتوي إلى معرفة مايقع خارج ذواتنا عند الآخرين. حيث ينتابنا دائما شعور بأن غيرنا يعيش تجارب أفضل ويحقق نجاحات أكبر منا .هذا الفضول يتحول عند المبالغة فيه إلى توتر بالغ سرعان مايتطور إلى ألم نفسي و الى عامل منغص ومربك للحياة السوية .

وهكذا تدل متلازمة الفومو إذن على ذاك الخوف الذي يتملكنا بأننا حين نغادر الشبكة ولو لبرهة قصيرة ، فلربما نكون قد فوتنا فرصة سعيدة،ولربما تجري بدوننا أحداث أكثر إثارة من أحداث حياتنا ،وكان بامكاننا الوصول لها .ثم بعد ذلك ،يحدث لنا أن ننتبه انه قد صار بامكاننا رؤية حياة الاخرين باستمرار، فنقرر أن “نتجسس” عليهم عبر المجموعات على الواتساب والفايسبوك وتويتر وانستغرام ، هكذا نغرق في الشاشات ونبقى متصلين على الدوام بالانترنيت.

المصابون بالفومو لايخلدون عادة للنوم إلا إذا قاموا بجولة ماسحة على الشبكات ،وعندما يستيقظون صباحا ، يستكشفون اول مايستكشفون ما قد جرى خلال نومهم .فأغلب اهتمامهم منصب على أنشطة أصدقائهم التي لم يشاركوا فيها كما أنهم في خوف دائم من الاقصاء ومن تضاؤل أعداد المعجبين بهم.

ينشأ هذا الاضطراب لديهم من الفرص الهائلة التي تضعها مواقع التواصل الاجتماعي أمامنا، والتي مهما تخيرنا من بينها ،سنظل نتساءل في دواخلنا هل قد أحسنا الاختيار؟. وهل كان من الأجدى المشاركة في ذاك النشاط الذي فوتناه؟، الفومو هو حالة عدم رضا مزمن. .أسئلته متعددة :هل كان الأنفع أن ننتسب للمهنة التي زهدنا فيها ؟ او كان الأفضل أن نتزوج الآنسة التي أغرمت بنا ولم نلق لها بالا ؟؟….هل كان يتعين فضاء العطلة بداخل البلاد عوض الذهاب للخارج ؟. هكذا تتوالى التساؤلات والتحسرات، و حتى الندم أحيانا، مما يعجل بالدخول في حالتي قلق وتبخيس للذات يغذيهما الفومو” اللعين” .

على أن ما يحفز الفومو عند تعساء الحظ من المصابين ويعذرهم بعضا أو كثيرا من العذر ،هي كمية المعلومات المتدفقة كالسيول على هواتفنا المحمولة ،ورغبتنا المحمومة لمجاراتها، لكي لانتوقف عن العلم بكل شيء و نعلم به في اللحظة الراهنة لحدوثه ،وهذا ضرب من المستحيل.

ترى شعب الفومو كل وقت يتابع المستجدات ،يقرأ الرسائل بمجرد ورود الإشعار . يستطلع الجديدوعلى فايسبوك ويستعرض تعليقاته وتعليقات الآخرين. هو في ولوج دائم للمواقع خوفا من أن يفوته خبر ما ،فرصة ما ،مناسبة ما عمل ما ،علاقة ما .

وللأمانة ،ليس هذا الشعور بفوات الفرص بالأمر الطارئ على الإنسان ،فدائما ماكان يعض على النواجذ أسفا على فوات بعض الفرص التي لم يحسن انتهازها أو لم يطلع عليها في وقتها ،هو فقط قد أخذ الآن شكلا أكثر حدة مع تغول مواقع التواصل الاجتماعي التي فاقمت وطأته وسرعت وتيرته .

من خلال هذه المواقع صرنا نطلع على ما يتمتع بع الآخرون، فنغبطهم وقد نحسدهم، وقد نتأسف على حالنا ، لأننا لم نسافر مثلهم حول العالم مثلا ،أو لأننا لم نختر مهنتهم التي درت عليهم المكانة و جنوا منها الأموال الطائلة،و لم نبن أسرة مستقرة مثلهم ،ولم نلتقط صورا مثلهم مع المشاهير ..لائحة خيبات طويلة جدا، بل وتطول كل يوم إذا لم ننتبه الى أنه من المستحيل أن تتيح لنا الحياة القصيرة التي نحياها كل هذه الفرص التي لا تجتمع عادة إلا على فيسبوك و من خلال ملاحظة حيوات عدة أشخاص إن لم يكن آلاف الأشخاص، و التي سنتعذبنا إن لاحقناها ،و لم نتوقف عن مقارنة حياتنا بالآخرين.

في سالف الأزمان كان أجدادنا يقارنون أنفسهم بمن يعيشون بجانبهم من مجاييليهم في الحياة الواقعية، وكانت المستويات متقاربة .أما اليوم فأصبحت هذه المقارنة بدون نهاية متجاوزة كل الحدود ،وتتم حتى مع من يبعدون عنا بآلاف الكيلومترات،واحيانا مع من غادروا هذه الحياة .

الوقوع في حبائل متلازمة الفومو،يحيل حياتنا مملة، رتيبة، ودون معنى ،إذ يسيطر علينا الانطباع بأننا في ضياع ،فيجتاحنا الحسد ويأكلنا من الداخل، والنتيجة هبوط في تقديرنا لذواتنا، وهذا منتهى السذاجة ،لأننا بكل بساطة ننسى أن اصدقاءنا ينشرون الأحداث السعيدة،و يخفون عنا ألوان الشقاء التي يكابدون .

الأدهى في هذا كله ان يستهدف الفومو من يعانون العزلة . والذين عوض أن يستمدوا من المواقع أصدقاء يبددون عزلتهم، يطلعون على ما يعيش فيه الآخرون من هناء ونعيم، فتتفاقم حالتهم أكثر وأكثر وتزداد عزلتهم .

كلنا مرشحون للفومو. فهذا الاضطراب لايحبذ نوعا من الشخصيات بعينه ،ولكن الخبراء يقولون إنه يستهدف أكثر المراهقين والشباب .إنه بالمرصاد لكل شخص غير مقتنع بوضعه يعتقد أنه غير محبوب ولا محترم من قبل الآخرين.

ورغم انه ليس مرضا نفسيا نعالجه ،لكنه قد تكون له آثار جدية على الصحة كالتوتر و الميل للاكتئاب واضطرابات النعاس والصداع والتعلق المفاجئ وتشتت الانتباه .

سيتساءل البعض كيف أعرف اني مصاب بالفومو؟.أنت فومو اذا كنت تلج مواقع التواصل الاجتماعي كل يوم، لفي الليل والنهار وخلال العطل و لاتتوانى عن ذلك، حتى وانت تأكل او تتحدث الى افراد أسرتك، وانت فومو ايضا إذا كنت تشعر بالقلق حين تغيب عنك اخبار الأصدقاء،وإذا كنت تغضب لما ترى نشاطا عبر فيسبوك لم تتم دعوتك له .أنت من قبيلة الفومو بالتأكيد إذا كنت خلال فعالية لازالت جارية تفكر في التدوينة التي ستكتب أو تلتقط الصور التي ستعرض عبر جدارك .

هل يتطلب الفومو العلاج؟، من حسن الحظ أن حالات قليلة تتطلب ذلك. إن الفومو يصبح غير ذا خطورة إذا ما تشكل لنا وعي به. هناك حيل كثيرة يمكن أن نواجهه بها، منها أن نقلص ساعات الارتباط بالشبكة وهذا يتطلب العزيمة والمثابرة.

ومنها ايضا أن نكون في حالة قبول تام لحياتنا وأن نتعلم كيف نفرق بين الآمال المشروعة التي توافق إمكانياتنا الواقعية وبين الأحلام التي تسافر إلينا عبر العالم السحري لفايسبوك وغيره. لكن الوصفة الناجعة هي أن نلتفت حوالينا للنعم التي نرفل فيها ونقدرها ونثمنها .ثم وهذا هو الأهم ان ننتبه إلى قوة وسلطة اللحظة الراهنة فهي الحقيقة وهي الوعي الكامل، فالتحسر على مافات لايفيد ،وتمني ماهو ضرب من المحال لايفيد أيضا.

ألم يكن رسول الله صلعم يشير لللحظة الراهنة في حديثه البليغ ” من أصبح منكم آمنا في سربه ،معافى في جسده ،عنده قوت يومه ،فكأنما حيزت له الدنيا ” هذا الحديث لوحده أن تمثلته يرد عنك غائلة الفومو ،لأن الدنيا التي تبحث عنها لدى الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي هي بداخلك متخللة اللحظة الراهنة التي تحياها.

واكاد أجزم أيضا أن الله تعالى قد أشار إلى حالة الفومو هاته في قوله ” ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ” في هذه الآية يأخذ الأمل معنى قدحيا،و معناه التطلع غير المعقول للأمور غير المستطاعة،التطلع لما في أيدي ،الآخرين ونسيان مابيدك . وهذا بالضبط مايشكل عصب اضطراب الفومو .
فوقانا الله وإياكم شر الفومو .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابع آخر الأخبار من مدار21 على WhatsApp تابع آخر الأخبار من مدار21 على Google News