امتحان البورد العربي بالبيضاء الليبية

لم أمكث بالبيضاء الليبية إلا يومين، وكانا فوق قصرهما حافلين بالعمل، ولكنهما كانا كافيين أن تنعقد بيني وبين هذه المدينة من مدن الجبل الأخضر ألفة خاصة. حين دخلت إليها شعرتني أنشرح دون سبب واضح، أهو جوها العليل، أم ليلها الرائق، أم شخصيتها العميقة القوية التي تأسرك وتجذبك لها دون أن تعرف كيف أثرت ولاكيف انجذبت، فللمدن كما تعلمون مزاج وشخصية كما البشر. ولها سلطان لا نفقه كنهه ولكن نخصع له، كما خضعت لهذه المدينة الساحرة دون مقاومة بل لرغبة شديدة مني وفي غضون يومين لا غير.
لم أشبع منها إذن، ولذلك سأغادرها بعد أن أنهي تقييد هذه الكلمات، على وعد مني لها بالعودة إليها مجددا، فقد رأيتها فقط من زجاج السيارات والحافلات التي كانت تقلنا من الفندق نحو الجامعة الإسلامية السنوسية حيث جرت مهمتنا، ورأيتها كذلك من خلال أحاديث وحكي اصداقائي الليبين الطيبين عنها، والذين تحدثوا عنها كجوهرة وكعروس لهم، ينافسون بها العرائس من المدن المتوسطية، حديثا جعلني أقول لنفسي أخيرا عثرت لطنجة المغربية على أخت
في ساحلها، يقولون، أبى الجبل إلا أن يستبد: لم يترك هامشا بينه وبين الماء للرمال، فوقف رابضا يطل مباشرة على البحر. كأنما يتحالف وإياه سدين منيعين ضد الغزاة.
يتحدث الليبيون عن مدينتهم هاته باحترام، وبنخوة وبحب، يصلون أحيانا لمرتبة التقديس، فلقد ارتبطت لديهم بمرحلة الكفاح ضد الاستعمار، وبنضال وملاحم مجيدة خاضها المجاهد عمر المختار مع آبائهم وأجدادهم، لذلك فهي ترمز عندهم للشموخ والعزة والإباء. أحد أصدقائي الليبين الجدد اطلعني على وثيقة تضم لائحة لقواد عمر المختار من بينها اسم جده، لقد أراني اسم جده المجاهد هذا، كما لو أنه يكشف لي عن وسام فخر فوق صدره هو. ففهمت منه دون كلام سر الدلال التي لهذه المدينة الأثيرة الرائعة على الليبيين. إنه دون شك في الحمولة التاريخية والمرجعية الفذة التي تمثلها لهم.
هي المدينة البيضاء، التي شيدت فوق الجبال الشماء على آثار بلدة بلاغراي ذات المحتد الاغريقي، والتي كانت، كلما رصعت هامتها الثلوج، تنحت اسمها الأول الزاوية البيضاء، ومع الزمن ذهب اسم الزاوية، وظل اسم البيضاء اسما لها على مسمى. اللون الأبيض هو اللون المفضل ويكاد يكون الأوحد فيها، لكأنما أرادت أن تكون مدينة للأمل والتفاؤل والمحبة والسلام والوئام.
تمتاز هذه المدينة من المغرب العربي الكبير بدفينها صاحب رسول الله صلعم رويفع بن ثابت الأنصاري حتى أنها كانت تسمى قبلا بمدينة سيدي رفاعة، وبالتالي هي مدينة روحية للليبين لأنها تصلهم بالعهد الأول للإسلام، ولأنها أم الزوايا التي تأسست بها أول زاوية دينية سنوسية بليبيا وأفريقيا. الزاوية ذات النفوذ والصيت الذائع بأصقاع العالم الإسلامي.
البيضاء، مدينة الأعلام والجهاد،و المدينة التي عجز عنها الإيطاليون وابتعدوا عنها، فشارفت أن تكون عاصمة ليبيا، ليكتب لها عوضا عن ذلك أن تكون في مقدمة المدن التي انقدحت منها شرارة التغيير بليبيا.
في ليبيا، وفي البيضاء تحديدا تشعر أنك لم تغادر المغرب، السحنات هنا مغربية تشي بالجينات القديمة، الليبيون يبوحون هنا بأن قبائل البيضاء أصلها مغربي، لذلك لا يملون من التعبير عن حبهم للمغرب، الشوق القابع فيهم يحركهم دون أن يشعروا بذلك، ميل تلقائي للمغاربة، وتوق لمدن المغرب وناسه.
كل الليبين يعرفون ويقدرون للمغرب والمغاربة أنهم يحبونهم دونما غرض..، يحبونهم لذات الحب فقط، ولذلك يفهمون أننا رجونا ونرجو لهم دائما الرفعة والتقدم والازدهار حتى نبني معا المغرب العربي الموحد القوي بأراضيه الشائعة ورجاله و نسائه.
يسألك الليبيون باستمرار: هل أحببت البيضاء وليبيا؟، فأجيبهم بأني أعشق ليبيا بالسماع منذ وعيت ذاتي، لأني عاشرت ليبيين بالمغرب، وعرفت فيهم الصدق والشهامة ودماثة الأخلاق، لكنهم مع ذلك يدققون ويلحون عليك: وهل طابق العيان السماع؟، فأجيب: هل يسأل المرء إن كان يحب أهله؟، هل يسأل أحد إن كان يحب نفسه؟.
في البيضاء، أجريت ضمن لجنة من خيرة الأطباء العرب امتحانات الزمالة العربية لاختصاص أمراض النساء، هنا سأفاجأ بأن عدد المترشحات يفوق 100 اختصاصية، ويتعدى كل من تقدموا للامتحان بالدول العربية الأخرى، التي زرتها ممتحنا لحد الآن، وهذا يدل كما صرحت لإذاعة وطنية ليبية على المستوى الذي صار للمرأة الليبية أولا، وارتفاع جودة التعليم ثانيا، وعلى ارتباط ليبيا الوثيق بعمقها العربي.
لاتملك إلا أن تحب هذه البلاد وقاطنيها، هي من أجمل بلاد الأرض، قد حباها الله بكل شيء.. وجعل قلوب الناس تهوي إليهم. فليدمها الله كما رأيتها آمنة مستقرة عزيزة متطلعة بوثوق إلى المستقبل.