عيد الأضحى.. “الهجرة الجماعية” إلى “مدن الهامش” تسائل شعارات العدالة المجالية

اعتبرت الباحثة في علم الاجتماع، إيمان بنطالب، أن “الهجرة الجماعية” التي تعرفها فترة ما قبل وما بعد مناسبة عيد الاضحى من المدن الكبرى إلى المدن الصغيرة والمتوسطة “تعكس في العمق لاعدالة مجالية واقتصادية تبرز من خلالها قيم اللاتكافؤ واللامساواة بين المجالات الحضرية و المجالات القروية و الشبه قروية”.
وأضافت الباحثة في علم الاجتماع، في حوار أجرته مع “مدار21″، أن تأثير هذه الهجرة لا ينحصر فقط في ماهو اجتماعي بل أكدت أنه يهدد المنظومة الثقافية في مناطق تصدير الهجرة، مبرزة أنه “يساهم في الاختلال الديمغرافي خاصة أن الطاقات الشابة تتجه للبث عن فرص أفضل في مناطق الجذب”.
وفي مقابل الجوانب السلبية لهجرة مواطني “الهامش” أو “المغرب غير النافع” نحو المدن الكبرى، والتي تبرز جليا خلال مناسبة عيد الاضحى، اعتبرت المتحدثة ذاتها أن “العيد لا يعتبر فقط ممارسة دينية”، مؤكدة أنه “تحول إلى التزام اجتماعي وثقافي يسعى من خلاله الأفراد إثبات انتمائهم و هويتهم المغربية”.
وفي ما يلي نص الحوار:
ألا تسائل مشاهد “الهجرة الجماعية” خلال عيد الأضحى نجاعة وفعالية سياسات الدولة منذ الاستقلال في إقرار عدالة مجالية حقيقية؟
قراءة مشاهد الهجرة الجماعية، كما أحببت أن تسميها، لا يمكن أن يتم خارج نطاق سياسة الدولة التنموية فارتفاع نسبة المهاجرين للمدن الكبرى تطرح تساءلا محوريا حول المجال الجغرافي وخصوصيته الاجتماعية و الاقتصادية.
فهذه الهجرة تعكس في العمق لاعدالة مجالية واقتصادية تبرز من خلالها قيم اللاتكافئ واللامساواة بين المجالات الحضرية و المجالات القروية و الشبه قروية. وفي هذا الجانب، يمكن القول أن المجتمع المغربي كغيره من المجتمعات الرأسمالية له خصوصية مجالية مازالت تتميز بالتوزيع اللامتكافئ لعوامل الإنتاج. وهذا يعني أن هناك مجالات جغرافية لها خصائص معينة وهي تلك المناطق الأكثر غنى لذلك تنطلق اليد العاملة للاستقرار بها تطلعا لأجر أحسن و فرص أكثر.
وعلى هذا الاساس، نستحضر فكرة المركز و الهامش إذ تشكل المدن الكبرى، والتي تتميز بتمركز وسائل الإنتاج من مؤسسات علمية وشركات ومعامل وإدارات ولذلك نسميه المركز أو مناطق الجذب. فيما تشكل المدن المتوسطة و الصغرى ومناطق الريف والأطلس والجنوب مناطق الهامش أو مناطق “تصدير الهجرة”، والتي تتميز بضعف البنيات التحتية وقلة فرص العمل والركود الاقتصادي.
انطلاقا من هذا التفاوت المجالي والتنموي الذي تحدثتي عنه، كيف يمكن أن ينعكس على واقع المدن التي تصدر هؤلاء المهاجرين إلى المدن الكبرى؟
أمام هذه اللاعدالة المجالية التي تعززها توجهات وسياسة الدولة المتمثلة في تركيز مشاريع التنمية في محور المدن الكبرى وخاصة الساحلية و التي تعتبر محور التنمية التقليدي، حسب تصريح محمد الديش المنسق الوطني للائتلاف المدني من أجل الجبل، فإن الفوارق المجالية تزداد بحدة مما يؤدي إلى اختلال التوازن الاقتصادي و الاجتماعي والديمغرافي للمجالات الجغرافية المتوسطة والصغرى و كذا القرى.
أما ثقافيا، فهجرة الأفراد نحو المدن الكبرى يهدد المنظومة الثقافية في مناطق تصدير الهجرة كما يساهم في الاختلال الديمغرافي لمجتمعاتها خاصة وأن الطاقات الشابة تتجه للبث عن فرص أفضل في مناطق الجذب مما يؤدي إلى شيخوخة المجال، أقصد هنا أن السكان الأصليين من كبار السن لا يهاجرون.
ومع هذه الظاهرة، تندثر العديد من النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يكون الشباب المؤهل بمثابة “الدينامو” المحرك لها، كما تصبح هذه المدن و القرى حاضنة للمشاريع الاستهلاكية فقط.
أي صور يأخدها اختلال التوازن الاقتصادي و الاجتماعي والديمغرافي بين المدن المصدرة للمهاجرين وبين المدن المستقبل لهم؟
أكيد أن الحركة الهجروية تؤدي إلى بروز الفوارق المجالية بين الحواضر الكبرى والمتوسطة وكذا القرى والتي تتبدى في صور مختلفة، وأولها هو نمو المدن الكبرى وتضخمها وارتفاع عدد سكانها و ينعكس ذلك على البنية السكنية و المورفولوجية للأحياء، حيث تظهر أحياء هامشية في حالة عدم قدرة المهاجرين على السكن بالأحياء المهيكلة، وهو ما يشجع على ظهور السكن العشوائي والسكن غير الائق.
من جانب آخر فإن هذه الهجرة تؤدي إلى بروز ظواهر اجتماعية من قبيل البطالة والفقر و الجرائم في حالة عدم تكافئ الفرص و كذا عند الاختلاط و عدم الاندماج الاجتماعي، بالإضافة إلى أن تمركز النشاطات الاقتصادية والسياسية والعلمية في مناطق المركز
يؤدي إلى غلاء المستوى المعيشي.
أما على مستوى المدن أو مناطق تصدير الهجرة، فاتجاه الأفراد نحو الهجرة نحو المدن الكبرى يهدد المنظومة الاقتصادية لهذه المناطق والتي تصبح في مواجهة مشكل هدر الموارد البشرية حيث أن أغلب الكفاءات العلمية تهاجر إلى مدن كبرى للحصول على فرص عمل ذات مردود مرتفع.
في المقابل، ومن منطلق سوسيولوجي، ما الذي يفسر حرص المغاربة على إحياء شعيرة عيد الاضحى مع الأهل والأحباب خلافا لباقي المناسبات الدينية الأخرى؟
قراءة هذا الالتزام أو الحرص كما سميتموه يمكن استنتاجه من خلال العادات السنوية التي تؤكد أن المجتمع المغربي يعرف حركة استثنائية للسفر خلال فترة عيد الاضحى خاصة من الحواضر الكبرى في اتجاه المدن المتوسطة و الصغرى و كذا القرى، كما تكشف هذه الحركة الهجروية الموسمية عن مجموعة من الخصوصيات يمكن قرائتها من زوايا مختلفة.
أول هذه الزوايا هو أن هذا العيد لا يعتبر فقط ممارسة دينية، بل هو التزام اجتماعي وثقافي يسعى من خلاله الأفراد إلى إثبات انتمائهم و هويتهم المغربية، فهو محطة لإثبات معاني الجود والإنفاق والالتزام الديني رغم الصعوبات المادية والمعنوية التي يواجهها الأفراد تزامنا مع هذه المناسبة الدينية فتجدهم يبذلون قصارى جهدهم للاحتفال بعيد الأضحى وإقامة طقوسه والالتزام بتقاليده وعاداته.
من جانب اخر، فهذا الالتزام الروحي الذي يبديه الأفراد اتجاه عيد الأضحى والذي يدفعهم إلى الهجرة بشكل جماعي في اتجاه مدنهم الأصلية، يكشف عن خصوصية العلاقات الاجتماعية وطبيعة الرابط الاجتماعي بالمجتمع المغربي، كما يعني ذلك أن المهاجرين باختلاف فئاتهم العمرية و نشاطاتهم الاقتصادية و نوعهم الاجتماعي يحرصون على قضاء العيد مع أسرهم أينما كانوا،
فالرابط الاجتماعي في المجتمع المغربي يتعزز ويتقوى بفعل التزام الأفراد بالقيم و العادات و التقاليد التي تعمل مؤسسات التنشئة الاجتماعية على تمريرها للأفراد والتي تعمل على ضمان استمرار الروابط الأسرية و المجتمعية.
ألا يعكس هذا الحرص على قضاء عيد الأضحى في المدن الأصلية تشبث المغاربة بقيمهم الثقافية والدينية؟
صحيح، إذ يمكن تفسير هذه الهجرة الموسمية المرتبطة بعيد الأضحى بالتزام اخر يرتبط بالهوية و قيم تمغرابيت، وأقصد هنا أن الأسرة المغربية أصبحت تواجه تحديات كبرى في ظل التحولات الاجتماعية و الثقافية المرافقة للعولمة و الرقمنة و التي ساهمت في ظهور قيم الفردانية و الانعزالية.
وفي هذا السياق الجديد، نلاحظ مقاومة المغاربة لهذه القيم الجديدة من خلال ترسيخ قيم التضامن و التماسك وصلة الرحم التي يحاولون تنشئة أبنائهم عليها، إذ يعد عيد الأضحى فرصة لتعزيز هذه القيم و تحبيبها للأطفال دفاعا عنها ومقاومة لقيم العولمة و الرقمنة التي ساهمت بشكل أو بأخر في تفشي الانعزال الاجتماعي عوض التواصل الاجتماعي.
زيادة على ما سبق، يمكن القول أن التزام الأفراد وهجرتهم نحو مدنهم الأصلية دليل على تشبتهم بقيم تمغرابيت التي هي قيم الهوية و الانتماء و التي يسعى من خلالها المغاربة المهاجرين إلى الحفاظ على تقاليدهم وعاداتهم حيث يتجه المغاربة في هذه الفترة الى اقتناء الملابس التقليدية وإحياء عادات الأكل القديمة وغيرها من الممارسات التي تشكل وسائل للمحافظة على التراث المادي و اللامادي للمجتمع.